فيروز، صوتُ كلّ صباحٍ ممكنٍ في شرق العطش والفساد، ليس بوسعنا، بعد الآن، سماع صوتها. ليس لأنها فقدت صوتها، ولا لأنها، لا سمح الله، فارقت الحياة، بل لأنها ممنوعة من الغناء. يصحُّ على فيروز، اليوم، قول أحمد فؤاد نجم: ممنوع من السفر، ممنوع من الغنا. إنها، فعلاً، ممنوعة من السفر وممنوعة من الغناء. يمكن لها أن تسافر للتنزّه، للتسوّق، ولكن ليس للغناء. الغناء ممنوع. هناك 'فيتو' رفعه في وجهها 'سِلْفها' منصور الرحباني حيّاً وواصله، بإصرار يحسدون عليه، أبناؤه. إنهم ورثة التركة الرحبانية وليسوا ورثة الإبداع والجمال الرحبانيين. مشكلة فيروز أنها زوجة 'عاصي' ومشكلة 'عاصي' أنه توارى، بعبقريته الفذة، وراء توقيع عائلي فضفاض مخاتل يدعى 'الأخوان رحباني'. هكذا تكوَّن الإرث 'الرحباني'، الذي لم يكن ممكناً أن يكون على ما نعرفه، لولا عبقرية 'عاصي' وصوت فيروز. هذا ما يجمع عليه عارفو 'الأخوين'. ولكن ما هي مشكلة أبناء 'منصور' مع فيروز؟ المال! جمركة صوتها إذا جاز التعبير. محاسبة 'السيدة'، بالليرة والدولار، كلما رغبت في الإطلال على منتظري أعطياتها.
الانحطاط هو، غالباً، فِعْلُ الوَرَثة. يجوز هذا على الدول والحضارات كما يجوز على الأفراد. عندما لا يكون لدى الوَرَثة ما يفعلونه سوى تناهش التركة، سوى الانقضاض عليها وتبديدها. والأيام شهدت أن ورَثة فرع من العائلة الرحبانية لم يكونوا بمستوى الترْكة، ناهيك عن أن يكونوا قد أضافوا إليها. الانحطاط عُملة الورَثة. إنه فعلهم 'الخلاق' الوحيد. يهبطون بالإرث المحلّق في الفضاء إلى سابع أرض. يمرغون وجهه بالتراب. يمتصون دمه مثل العلق أو قراد الخيل. هناك كائنات تعيش على غيرها. لا تفعل شيئاً سوى أن تغرز مخالبها، أنيابها، أسنانها في دم غيرها وتتغذى عليه. هكذا، أيضاً، يفعل الوَرَثة.
' ' '
سيقف لبنانيون وعرب يوم الاثنين القادم وقفة احتجاجية على منع فيروز من الغناء. سيكون صوت فيروز هو البيان الوحيد للمحتجين على تكميم صوت أبرز ظاهرة غنائية وأخلاقية في زمن العرب المعاصر. كتبت، سابقا، كلمات في هذا الصدد، قبل أن يمعن أبناء منصور الرحباني، ومعهم السلطات اللبنانية، في الحجر على فيروز ومنعها من استعادة منجزها وتقديمه، مجدداً، لعشاقها. لمناسبة هذا الإمعان البشع في قهر فيروز أستعيد تلك الكلمات:
لو أزحنا إرث 'الأخوين رحباني' من ذاكرتنا لامّحى، على الأقل، نصفها. أو لفقدنا الدليل إلى أطلالها المتشعبة. كيف يمكن أن نفكِّر بصباحات الذهاب الى المدرسة. بمراهقتنا. بشبابنا المتلفّت نحو عشرين جهة. بالطرق التي مشينا فيها. بالشبابيك التي وقفنا تحتها. بالمقاهي التي جلسنا إلى طاولاتها الخشبية. بأوراق الخريف المتساقطة. بنباتات فقيرة ولكن مزهرة في أصصٍ على حواف بيوتنا. بالمواعيد التي ضربناها. بالطلَّة التي عبدناها من دون 'الأخوين رحباني'؟ أقصد، طبعاً، من دون فيروز. لكل أغنية فيروزية ذكرى في حياتنا. هناك وجوه صمدت في ذاكرتي بسبب أغنية لفيروز. شوارع كان يمكن أن تمّحي من الواقع والذاكرة لولا أغنية لها. جدران يتعرش عليها لباب وياسمين بلدي قضمتها أسنان البلدوزر، صار موقعها كراجاً لغسيل السيارات، ولكنها لا تزال تحتفظ برائحةٍ ولونٍ في ذاكرتي. هناك شباب يكاد يكون خالداً لذات الغمازتين بسبب أغنية فيروزية لم تُكتب عنها. أفكِّر، الآن، بصاحبي الذي صعدت معه درجاً حجرياً إلى أحد جبال عمان وهو يدندن 'تعا ولا تجي واكذب علي الكذب مش خطية'. صاحبي لم يعد صاحبي. خطوتي مضت بعيداً عن أدراج عمان الحجرية. وصلت إلى حواف المياه المظلمة. لولا تلك الأغنية التي كان يدندن فيها للحبيبة 'التي تأتي ولا تأتي' لامّحى اسمه ووجهه من ذاكرتي. أتذكر ذلك الساهر الأبدي الذي يقلد أغنية 'يا عود، يا رفيق السهر يا عود'. لم يكن يعزف عوداً ولا غيتاراً ولكنه بدا كذلك. هناك، أيضاً، الشاعر الذي ترك على المجيب الآلي لهاتف منزله مقطعاً من أغنية 'ما في حدا'. إنه يقصد، بالطبع، لا أحد في المنزل الآن.. إترك رسالة. مات الشاعر وظلت 'ما في حدا' تجيب، وحدها، المتصلين. لي مع 'البعلبكية' أكثر من ذكرى. بل حياة. أحببت 'البعلبكية '. تزوجتها. أنجبت 'يارا'. هل كان يمكن أن نسمي ابنتنا 'يارا' لولا فيروز. رغم أن جدائلها سود كنا نغني لها 'يارا الجدايلها شقر، فيهن بيتمرجح عمر، وكل نجمة تبوح بسرارا، يارا، يارا'.
طبعاً يمكن أن يقال كلام كهذا عن غناء آخر، عبد الحليم مثلاً. لي، شخصياً، مع غناء عبد الحليم ألف ذكرى، لكنها من نوع مختلف. غناء فيروز، أقصد الرحابنة، كان ينعقد على الحلمي والواقعي معاً. هناك لبنانيون وسوريون يعرفون جغرافيا الغناء الرحباني موقعاً موقعاً. نحن الأبعد قليلاً قد لا نعرفها ولكننا أصبنا بعدوى الألفة. هناك سلالة من الصبيان والبنات نهلت أسماءها من أغنيات 'الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع'. بهذا يختلف عبد الحليم عن فيروز: خارطة الأمكنة والأسماء والتواريخ. غناء عبد الحليم عاطفة شبه مطلقة. قلب جريح دائماً. فم أبدي ظامئ على حافة الماء. ليس هذا حال الغناء الفيروزي. العاطفة، مهما جاشت، تظل منضبطة. عاطفة واقعية إذا جاز التعبير. الأماني ليست معلقة بنياط القلوب، قد تكون في سلة زهور أو بندورة. لست في وارد المفاضلة ولا المقارنة بين ظاهرتين. الحديث عن الغناء بحد ذاته ليس هدفي، بل الإرث الرحباني ومصائر صناعه.
' ' '
كنت أعرف فيروز فقط. لم تكن تهمني الورشة الدؤوب التي تعمل وراء صوتها. ثم صرت أعرف 'الأخوين رحباني'. ثم رحت أحب 'عاصي'. ربما لأنه مات مبكراً. لأن الشعلة، وهي تضيء، تحرق نفسها. تتغذى من لهبها. وربما لأنني حدست أنه هو الشعلة الرحبانية رغم اسم 'الأخوين'. ربما لأنه كان زوج فيروز. لكن سيقدر لحدسي أن يصيب أو أن يغلّب ظنونه. تعرفت الى شاعر كبير عمل مع الرحابنة. كان ذلك بعد رحيل عاصي. قال لي إن 'الأخوين رحباني' هما، إلى حدٍ كبير، 'عاصي'. الشعلة هي عاصي. الدينمو هو ذلك العصبي، المتوتر، الطاغي، والمتفجر باللحن والكلمة الذي خذله الدماغ العبقري باكراً، ومثل الأنبياء القدماء سيخذله أهله، لكن صرخته ستسمع، يوماً ما، في البرية. الزمن قد يكون برهاناً على حدسي غير المبرأ من الانحياز. في الواقع ليس لدي برهان آخر على أن 'عاصي'، هو إلى حد كبير، 'الأخوين رحباني' غير الزمن. عاش 'منصور' شقيق 'عاصي' وشريكه في تلك الماركة المسجلة، نحو ربع قرن بعد أخيه. حسبتي بسيطة: لو كان 'منصور' نصف 'الأخوين رحباني' لحصلنا على نصف غنائهم وموسيقاهم ومسرحهم بعد رحيل 'عاصي'! لكن ما قدمه 'منصور'، بعد غياب شقيقه، لم يترك أثراً. دلوني على أغنية شاعت من إنتاج 'منصور' بعد عاصي؟ أريد أن يقول لي عارف بالمسرح الغنائي، ولكن من غير المطبلين، أي عمل يمكن تذكّره لمنصور بعد عرضه بسنة؟ قد تكون تلك الحسبة ساذجة. وليس هكذا يحسب الإبداع. فربَّ كلمة واحدة نطقها منصور، جملة موسيقية واحدة أضافها، جعلت أكثر أغاني 'فيروز' التصاقا بذاكرتي ممكنة. ربما لن نعرف أبداً أين يبدأ 'عاصي' وأين ينتهي 'منصور'. فلم يترك 'الأخوان'، على ما يبدو، خارطة طريق إلى مئات الأغاني والاسكتشات والمسرحيات التي صنعت ظاهرتهما غير القابلة للتكرار.. لكن مهلاً، هناك واحدة، فقط، تعرف 'خارطة طريق' الرحبانية: إنها فيروز.
' ' '
أعود إلى الخذلان الذي هو أصل هذه الكلمات. فقد رأيته على وجه 'السيدة' في إطلالة تلفزيونية نادرة لها على محبيها. كانت فيروز تتحدث بأقل قدر ممكن من الكلمات 'الدالة' إلى الكاميرا. إطلالتها التلفزيونية، في ذكرى رحيل عاصي، خصصت لهدف واحد: وضع الأمور في نصابها! هناك ما طفا على السطح داخل العائلة الرحبانية التي صارت عائلات. هناك من يود أن يستقوي بالزمن. بطول العمر فقط. أقصد بقاء 'منصور' نحو ربع قرن بعد رحيل أخيه، وتجيير الظاهرة، رسمياً، إليه. ربما هذا هو سبب إطلالة 'الديفا' التي لا تدلي، عادة، بأحاديث صحافية أو تلفزيونية. على طريقة ما قلَّ ودلَّ تكلمت. كانت ملامحها صارمة، وكان لكلامها وجهة محددة. لم تذكر سوى 'عاصي'. إنه الاسم الوحيد الذي تكرر أثناء المقابلة. تعقبه، مباشرة، مقتطفات من أحاديث تلفزيونية، نادرة، لعاصي الرحباني مأخوذة، على الأغلب، من أرشيف العائلة. 'ريما' ابنة فيروز التي أشرفت على إطلالة والدتها هي التي رتبت التعاقب الدال لكلام والديها في المادة التلفزيونية التي فاجأت محبي 'سفيرة الغناء العربي إلى النجوم'. تتكلم فيروز بلغة مختزلة ثم يحضر عاصي من الأرشيف ليكون كلامه المحكم مصداقاً على ما تقول. كل كلام فيروز القليل كان عن عاصي. الإشارة الوحيدة إلى 'منصور' كانت سلبية. فهمنا من كلمات فيروز أن 'عاصي' كان يشتغل 'شغله وشغل غيره'. من هو 'غيره'؟ لا بدَّ أن يكون 'منصور'. لعل تلك المادة التلفزيونية التي أعدتها 'ريما' كانت محاولة لـ 'وضع الأمور في نصابها'، ولكنها بدت مجحفة لأنها حذفت 'منصور' من المشهد تماماً. لعلها كانت رداً غير مباشر على قرار وزارة التربية والتعليم اللبنانية تكريم 'منصور' من دون أخيه العبقري الراحل، مؤسس العائلة الرحبانية. هل يهمنا حقاً، نحن أبناء الزمن الرحباني، 'صراع الورثة'؟ هل تغير معرفة أي الأخوين هو العقل المدبر للظاهرة الرحبانية كثيراً في مصائر تلك الأغاني التي ذابت في شراييننا وسكنت، نهائياً، ذاكرتنا؟ هل سنسمع ما كنا نسمعه بصوت فيروز أو نصري شمس الدين على نحو مختلف الآن؟ هل سنتساءل، بعد انفجار الصراع داخل العائلة الرحبانية، من الذي كتب كلمات هذه الأغنية ومن لحنها؟ لا أظن. إنه صراع الأبناء على التركة. إنه 'حصر إرث'. وهذا لا يهمنا. فلن يتغير شيء من سحر تلك الظاهرة. كما أنني، شخصياً، سأحبّ 'عاصي' أكثر.
' ' '
دعوا فيروز تغني. عار أن يلتصق منع فيروز من الغناء باسم منصور وابنائه. ثم ألا يشعرون أنهم كلما أمعنوا في تغييب فيروز حضرت أكثر وأحبها محبوها أكثر؟ ماذا يربحون (غير المال) سوى اتساع مساحة الكره لهم.
ألا يعني لهم هذا شيئاً.
المصدر- القدس العربي