الأسطورة هي كل شيئ يناقض الواقع أو ليس له في الواقع وجود. والراجح أن هذا التفسير جاء من اجتهادالمترجمين في أوائل النهضة عندما جعلوا الأسطورة ترجمة لكلمة "Myth" التي كانتتعني "ما يناقض الواقع "..
وتعريف الاسطورة نشأ من عدة أسباب هي :
1-الاساطير متنوعة في مواضيعها ، فهناك من يرى أنواعها خمسة هي :
أ- الاسطورةالطقوسية : وهي تمثل الجانب الكلامي لطقوس الافعال ألتي من شأنها أن تحفظللمجتمع رخاءه .
ب-اسطورة التكوين : وهي التـي تصورلنا عملية خلق الكون .
ج- الاسطورة التعليلية : وهيألتي يحاول الانسان البدائي عن طريقها ، أن يعلل ظاهرة تستدعي نظره ، ولكنه لا يجدلها تفسيراً ، ومن ثم فهو يخلق حكاية أسطورية ، تشرح سر وجود هذه الظاهرة .
د- الاسطورة الرمزية : وهي ألتي تتضمن رموزاًتتطلب التفسير ، ومن المؤكد أن هذه الاساطير قد ألفت في مرحلة فكرية أكثر نضجاًورقياً .
هـ- أسطورة البطل الاله : وهي التي يتميزفيها البطل بانه مزيج من الانسان والاله ، (ألبطل المؤله ) ألذي يحاول بما لديه منصفات إلهية أن يصل الى مصاف الالهة ، ولكن صفاته الانسانية دائماً تشده الى العالمالارضي .
بينما نجد الدكتور : أحمد كمال زكي يقسمها الى أربعة أنواع هي :
أ- الاسطورة الطقوسية
ب- الاسطورة التعليلية
ج- الاسطورة الرمزية
د- التاريخسطورة ، وهي تاريخ وخرافة معاً
هذه التقسيمات تتناول الاسطورة قديما ، فنحن الآن في هذا العصرنمتلك نوعاً جديداً من الاساطير ، ذلك هو الاسطورة السياسية ، التي لعبت وتلعبدوراً في صناعة الايديولوجيات ألتي تخدم أغراضها ، بخلقها الوعي الزائف ، باعتمادهاعلى الظلال السحرية للكلمة ، وهذا ما سنفصل ألقول فيه لاحقاً .
إن تنوعالاساطير ، يؤدي حتماً الى تنوع تعاريفها ، لان كل تعريف يتأثر بنوع الاسطورة ، أوبنوعين أو ثلاثة أنواع ، ولذا يبقى التعريف قاصراً عن أن يكون جامعاً مانعاً .
2- إن تنوع الاساطير أدى الى تنوع المناهج التي تتناول الاساطير بالدراسة، فلذا ظهرت المناهج التالية :
أ- المنهج اليوهيمريالذي يعد من أقدم تلك المناهج ، ويرى الاسطورة قصة لامجاد أبطال وفضلاءغابرين .
ب-المنهج الطبيعيألذي يعتبر أبطالالاساطير ظواهر طبيعية ، ثم تشخيصها في أسطورة ، أعتبرت بعد ذلك قصة لشخصيات مقدسة .
ج-المنهج المجازيبمعنى أن الاسطورة قصة مجازية ،تخفي أعمق معاني الثقافة .
د-المنهج الرمزيبمعنى أنالاسطورة قصة رمزية ، تعبر عن فلسفة كاملة لعصرها ، لذلك يجب دراسة العصور نفسهالفك رموز الاسطورة .
هـ-المنهج العقليألذي يذهبالى نشوء الاسطورة نتيجة سوء فهم إرتكبه أفراد في تفسيرهم ، أو قراءتهم أو سردهملرواية أو حادث .
و-منهج التحليل النفسيالذي يحتسبالاسطورة رموزاً لرغبات غريزية وإنفعالات نفسية.
وإنعلمالميثولوجيا، حتى الآن ، لم يصل الى مرحلة النضج التي تؤهل مدارسهالمتنافرة ، المتعارضة للاندماج.
3- إن للاسطورة جوانب متعددة ومتنوعة ، فهيإن صح التعبير - كما وصفها البعض أنها متاهة عظمى ، فلذا نجد الكثير ينطلق فيتعريفه متأثراً بجانب أو عدة جوانب منها فتبدو التعريفات قاصرة ، وقد نجد العكس حيثيلجأ البعض الى تعابير فضفاضة تمتاز بالتعمية والمطاطية الى حد يفقدها الدقةوالتشخيص والتمييز .
4- إن للاسطورة خاصية الشعر الذي يكاد يظل عصيا على أيوصف محدد ، (ولعل صعوبة الحد والتعريف كامنةفي المطلق الذي تنزع اليه الاسطورة أوالذي ينزع اليه الانسان من خلال الاسطورة ، كما قد يكمن في كونها على حد تعبيربعضهم نظاما رمزياً ، وفي أن المنهج أو المنظور الذي يتعين النظر اليه منها لاينبغي أن يكون جزئياً انتقائياً حيال هذه الحقيقة الثقافية المعقدة ) .ناهيك عناننا لم نمر بتجربة الاسطورة مروراً مباشراً ، عدا بعض منها ، وهو بعض مشوش الاصل ،متلون الشكل ، غامض المعنى ، والظاهر أنها على الرغم من امتناعها على التفسيرالعقلاني ، تستدعي البحث العقلاني الذي تعزى اليه شتى التفسيرات المتضاربة ، والتيليس فيها ، على كل حال ، ما يستطيع تفسير الاسطورة تفسيراً شافياً .
5- إنالقدماء انفسهم لم يعملوا على تمييز النص الاسطوري عن غيره، ولاهم دعوه باسم خاصيساعدنا على تمييزه بوضوح بين ركام ما تركوه لنا من حكايا وأناشيد وصلوات وما اليها . ففي بيوت الالواح السومرية والبابلية ، نجد أن النصوص الاسطورية مبعثرة بينالبقية . ثم أن عنوان الاسطورة غالباً ما كان يتخذ من سطره الافتتاحي الاول ، شأنهفي ذلك شأن بقية النصوص الطقسية أو الملحمية أوالادبية البحتة .وهذا ما حدث فيالتراث الاغريقي كذلك .
6- إشتراك أجناس أدبية أخرى مع الاسطورة في بعضعناصرها ، مثل الخرافة ، اللامنطق ، اللامعقول ، اللازمكان في بعض الاحيان ، فلذاأرى من الضرورة بمكان ، أن نحاول التوصل الى ايجاد معايير ، يمكن أن نفرق بها بينالاسطورة و تلك الاجناس ، قبل الشروع في محاولة لصياغة تعريفات تختص بالاسطورة دونغيرها . فالخرافة هي الحديث المستملح المكذوب ، وقالوا حديث خرافة ، ذكر إبن الكلبيقولهم حديث خرافة ، أن خرافة رجل من بني عذرة ، أو من جهينة ، إختطفته الجن ، ثمرجع الى قومه ، فكان يحدث باحاديث مما رأى يعجب منها الناس فكذبوه ، فجرى على السنالناس ، وروى عن النبي (ص) أنه قال (وخرافة حق) وفي حديث عائشة قال لها حدثيني ،قالت ما أحدثك حديث خرافة والراء فيه مخففة ولا تدخله الالف واللام لانه [ أسمخرافة ] معرفة ، وتوضع أل [ الخرافة أو الخرافات ] إذا أرادوا الخرافات الموضوعة منحديث الليل ، أجروه على كل ما يكذبونه من الاحاديث وعلى كل ما يستملح ويتعجب منهوراوي الخرافة والمستمع اليها على حد سواء يعرفان منذ البداية ، أنها تقص أحداثاً ،لا تلزم أحداً بتصديقها ، أو الايمان برسالتها.وهي تختلف عن الاساطير في أن الخرافةتناقلها الناس بلغتهم الدارجة ، في الوقت الذي إحتفظت فيها الاساطير بلغة فصيحة . كما أن الاسطورة ترجع الى ما قبل الاديان ، أما الخرافة فقد ظهرت بعد الوثنية ،ولذا يغلب عليها الطابع التعليمي والتهذيبي والبطل في الحكاية الخرافية يكوننموذجاً متخيلاً بعيداً عن الواقع الى درجة لا يصلح لأن يكون مثالاً يحتذى به علىأي صعيد . فالمزج الصبياني بين اللامعقول و الواقع، يتميز في الجني الذي لا يعرف منأي مكان يأتي عندما يفرك علاء الدين المصباح ، وبعد أن ينهي مهمته ، يرجع ولكن لايعرف الى أين ويقصد بها الامتاع والمؤانسة . ولكنها ذات بنية معقدة ، فهي تسير فيإتجاهات متداخلة ، ولا تتقيد بزمان حقيقي أو مكان حقيقي.
أماالحكاية البطولية، فهي تتسم ببعض ما تتسم به الخرافة من إغراق فيالخيال ، وبعدها عن الواقع ، الا أن لها أصلاً في الحقيقة الموضوعية ، ضخّم وبولغفيه ، وعمل الخيال البشري الخلاق عمله ، غير انه خال من طابع الجد والقداسة ، فهيقصص دنيوية وغير مقدسة ، ومحددة تحديداً زمانياً ومكانياً ، وهو ما يبرر قيامالباحث ، بالعملية العكسية ، أي الصعود من الادب الى الاسطورة .
وان البطلفيها ، ولما يملك من القوة الخارقة ولما يقوم به من تصرفات فروسية ، يشكل صورةمثالية عن الانسان ، وعن ما هو إنساني ، يستثير الرغبة في السامع الى تحقيق هذهالصورة المثالية.
وهناكالحكاية الشعبيةالتي يميزهاهاجسها الاجتماعي بشكل رئيسي عن الحكاية الخرافية والحكاية البطولية ، فموضوعاتهاتكاد تقتصر على مسائل العلاقات الاجتماعية والاسرية منها خاصة ، مثل زوجة الابوحقدها ، وغيرة الاخوات في الاسرة من البنت الصغرى التي تكاد تكون في العادة الاجملوالاحب…الخ.
والحكاية الشعبيةواقعية الى أبعد حدوتخلو من التأملات الفلسفية والميتافيزيقية ، مركزة على أدق التفاصيل وهموم الحياةاليومية ، وهي رغم استخدامها لعناصر التشويق ، الا أنها لا تقصد الى إبهار السامعبالاجواء الغريبة ، أو الاعمال المستحيلة ، ويبقى أبطالها أقرب الى الناس العاديينالذين نصادفهم في سعينا اليومي ، وأن البطل فيها يلجأ الى الحيلة والفطنة والشطارةللخروج من المأزق.
إن استخدام العناصر الخيالية - في بعض الاحيان - يهدف الىالتشويق والاثارة . أما بنيتها فتمتاز بالبساطة ، فهي تسير في إتجاه خطي واحدوتحافظ على تسلسل منطقي ، ينساب في زمان ومكان حقيقي ، ولها رسالة تعليمية ،تهذيبية ، وذلك مثل جزاء الخيانة ، فضل الاحسان ، مضار الحسد000الخ
ومن خلال ما تقدم ذكره ، نستطيع أن نضع أيدينا على بعض خصائص الاسطورة ، على نحويميزها عن غيرها من الاجناس القريبة منها ، تمهيداً للأقتراب من تعريفها على نحويساعدنا على إدراكها .
فالاسطورة - لحد هذه اللحظة من البحث - يمكن أن نقولإنها :
1- تكتب أو تنقل مشافهة باللغة الفصحى .
2- خطاب الجدوالحقيقة ، وليست أحاديث للامتاع والمؤانسة .
3- مقدسة ، تمتلك قوة الاعتقادالملزم للمجتمع قبل ظهور الاديان .
4- تصدر عن تأملات وإنفعالات وخيالاتجمعية ، لا فردية .
5- تتناول موضوعات إنسانية كبرىوشاملة، تخص جدل الانسانمع نفسه ، ومع ما يحيط به .
وحين نزعم تعريف الاسطورة - هذه المتاهة العظمى - ينبغي أن ندرك إستحالة حصولنا على تعريف كامل وشامل ، وإنما تكمن محاولتنا فيالوصول الى أقرب نقطة منها ، فلذا نحرص على أن ندرك الاسطورة قبل تعريفها ، ولذانتدرج من الشكل الى المضمون مع التأكيد على أن إتحاد هذين الجانبين ، وتفاعلهماتفاعلاً جدياً ، ينتج عنهما نمط من أنماط التعبير يطلق عليه اسم الاسطورة .
فمن حيث الشكل وردت المصطلحات التالية :
أ-الاسطورة : حكاية ، قصة ، رواية. وقد إتفقت غالبية المصادرعلىهذه التسميات .
ب-الاسطورة : حادث ، حادثة ، أحداث ،خبر ، أخبار ، وعاء ، وقد وردت هذه التسميات في بعض المصادر.
ج-الاسطورة : شكل من أشكال التعبير ( نسيج وحده ) رحمه المولد لهالفكر والخيال والوجدان ، وأداته الرمز ، وان الشكل السردي أحد أشكال الاسطورة لاغير .وأن لغتها ( نسيج وحدها ) ولا سبيل الى التعبير عما تعبر عنه بسواه ، تماماًكالشعر ، لا يمكن نقله من صورته التي هو عليها وترجمته ، والاَ حصل ما حصل للشعرالمترجم من تفكك نظمه ، وبطل وزنه ، وسقط موضع التعجب منه على حد تعبير الجاحظ . وهذا رأي إنفرد به الدكتور محمد عجينه مخالفاً رأي كلود ليفي ستروس الذي يجد قيمةالاسطورة تظل قائمة رغم أسوأ أنواع الترجمة في كل أنحاء العالم ، لان كنه الاسطورةلا يكمن في أسلوب صياغتها ، ولا نمط سردها ، ولا في تركيبها النحوي ، بل في التاريخالذي ترويه.
وإختلف الباحثون في الصفات التي تطلق على ما ورد في الفقرة أوالفقرة ب. فقد وردت الصفات المتنوعة التالية :
(( مقدسة ، تقليدية ، خرافية ، ملفقة ، حقيقية ، تاريخية ، تعليلية ، تكفيلية ،متداولة ، بدائية ، صبيانية ، رمزية ، مجازية ، لعب مجانية ، مبالغ فيها ، إنفعالية، غير عقلانية ، جمعية ، مدهشة ، مجهولة المؤلف غير منطقية ، لا زمكانية ، لاشعورية ، واعية ، لا واعية .))
وعلى سبيل المثال لا الحصر ، نذكر بعضالتعاريف التي تحتوي مثل هذه الصفات ، لغرض المراجعة لمن شاء ، ولمساعدة أنفسنا فيالاقتراب من الاسطورة ، فمثلاً :
يقول الباحث الفرنسي كلود ليفي ستراوس: (( الاسطورة : حكاية تقليدية ، تلعب الكائنات الماورائية أدوارهاالرئيسية )).
وفي الموسوعة العربية العالمية ، نجد أنالاسطورة : حكاية تقليدية تروي أحداثاً خارقة للعادة .
يقول بول ريكو : الاسطورة : حكاية تقليدية ، ترويوقائع حدثت في بداية الزمان ، متفقاً مع الفيلسوف الفرنسي جيلبار دوران الذي يعرفهابأنها (( نظم لوقائع رمزية في مجرى الزمان )) .
يعرف مرسيا إليادالاسطورة بأنها (( قصة مقدسة تروي حدثاً وقع في بداية الزمان )) .
والاسطورةحكاية مقدسة ، ذات مضمون عميقيشف عن معاني ذات صلة بالكون والوجود وحياة الانسان. (28) كما يرى السواح .وانهاسجل أفعال الالهة ، تلك الافعال التي أخرجت الكون من لجة العماء ، ووطدت نظام كلشيء قائم ، ووضعت صيغة أولى لكل الامور الجارية في عالم البشر .
ويرى شلهودأنها قصة تعليلية ، ويرى آخرون أنها قصة حقيقية ، جرت في بداية الزمان ، وتصلحإنموذجاً يمكن أن يحتذى به من قبل البشر في سلوكهم .
ويرى الناقد السوري ،خلدون شمعة أنالاسطورة : قصة متداولة أو خرافية ، تتعلق بكائنخارق أو حادثة غير عادية . فهي قصة مخترعة أو ملفقة .
ومنهم منيرىالاسطورة : قصة مجازية تخفي أعمق المعاني أو أنها قصة رمزيةتعبر عن فلسفة كاملة لعصرها.
ويرى الدكتور محمد فتوح أحمد نفسهمتفقاً مع مؤلفي كتاب (( نظرية الادب )) ( رينيه ويليك و أوستن وارين ) في أنالاسطورة : حكاية مجهولة المؤلف تتحدث عن الاصل والعلة والقدر ، ويفسربها المجتمع ظواهر الكون والانسان تفسيراً ، لا يخلو من نزعة تربوية تعليمية .
ويرى الدكتور قيس مؤلف كتاب ( الاساطير وعلم الاجناس ) أن الاسطورة : ليست سجلاً تاريخياً مظبوطاً للاحداث الجارية عبر ماضيالجماعات ، بل هي تمثل تاريخاً قبلياً ، تتوارثه الاجيال المتعاقبة عن طريق التلقين .
ويصف الدكتور عبد الرضا عليالاسطورة بأنها : الوعاء الاشمل الذي فسر فيه البدائي وجوده ، وعلل فيه نظرته الى الكون ، محدداًعلاقته بالطبيعة ، من خلال علاقته بالآلهة التي اعتبرها القوة المسيرة والمنظمةوالمسيطرة على جميع الظواهر الطبيعية ، وتعاقب الفصول ، والليل والنهار ، والخصبوالجفاف ، مازجاً فيها السحري بالديني ، وصولاً الى تطمين نفسه ووضع حد لقلقه وأسئلته الكثيرة .إنها أسلوب لشرح معنى الحياة والوجود صيغ بمنطق عاطفي كاد يخلو منالمسببات ، إمتزج فيها الدين بالتاريخ ، والعلم بالخيال ، والحلم بالواقع .
ويرى K.O.MULLER أن الاسطورة : أحاديث مصورة لأحداثتاريخية حقيقية واقعية .
ويرى ب كوملان أنالاساطيرهي في الحقيقة مجموعة من الاكاذيب ولكنها اكاذيب كانت لقرون طويلة حقائق يؤمن بهاالناس .
وفي قاموس اللاروس ، وردتالاسطورة أنها خبرتاريخي أو حكاية تاريخية بالغت فيها المخيلة الشعبية أو الابتكار الشعري .
ومن وراء هذا الاستعراض ، نكتشف إتجاهين ، لكل إتجاه خصائصه ، فاذاأخذنا بالمنهج العقلي الذي يرى أن الآلهة كانت في أصلها ، طائفة من الملوك ، بلغوامن القوة والتأثير شأواً عظيماً ، جعل الناس يتجاوزون بهم عالم الواقع الى عالمالخوارق ، ويؤلهونهم ، فان هذا الاتجاه يجعل من الاساطير واقعاً تاريخياً ، أو لعلالاصح أن يقال : إن الاساطير قد أصبح لها بفضل هذا الاتجاهواقع فيما قبل التاريخ ،وأخذت الاساطير منذ ذلك ، تمثل ذاكرة الانسانية عندما تستدعي مرحلة بلغ من بعدها فيالزمان ؛ أن إكتنفها الغموض من كل جانب . وأعان ذلك الخيال على تصوير الملوكتصويراً خارقاً في عصور سحيقة ، غلبت عليه البداوة . وهذا هو رأي يوهوميروس الذيمات في أوائل القرن الرابع قبل الميلاد .
وهناك رأي مناقض لهذا ، ولكنه فينفس الاتجاه التاريخي ، ومضمونه : أن البشر الاولين إذ صعقتهم ظواهر الطبيعة ،بدأوا يعطونها أسماء انتقلت تدريجياً الى أشخاص ، على إعتبار الفكر البدائي ، عاجزعن تشخيص المجردات وهكذا صارت الحياة الكونية تكتسب حياة .
وكان البطلالاسطوري إلها أو إبن إله أو شبه إله ، وهذا يدل على أن أدوات الانسان التقنية كانتقاصرة ، وغير مؤدية للغرض ، مما أضطر الانسان الى أن يصوغ نموذجه البطولي على غرارالآلهة المقتدرين ، الذين يمكنهم التحكم في هذا العالم فقد صورت الآلهة من خلالسمات انسانية بحتة .
فالاغريق لم يؤمنوا بأن الآلهة خلقت الكون ، بل علىالضد ، فالكون هو الذي خلق الآلهة .
إن هذا الاتجاه بشقيه المتضادين ، يحصرالاسطورة في اهتمامها بظواهر الطبيعة ، التي حاول الانسان أن يفهمها ويسيطر عليهاعن طريق الاسترضاء أو التحدي ، وعند عجزه ، حاول أن ينسجم معها قدر الامكان
أما الصفات الاخرى ، فقد حولت الاسطورة الى نظرة الانسان الفلسفيةوالجمالية لحياته الاجتماعية التي يعيش واقعها ، بعد فتور إهتمامه بتعليل الظواهرالطبيعية ، بمعنى آخر ، أصبحت الاسطورة حاجة روحية لا غناء للانسان عنها ، ففيهاتظهر إنفعالاته الشعورية واللاشعورية ، تأملاته في المستقبل أو ما ينبغي أن تكونعليه الحياة الافضل ،خيالاته التي تحقق ما يعجز عن تحقيقه في الواقع ، آماله ، توقهالابدي الى الجديد ، محاولته الجدية للتخلص من فرديته ، أي أنها أصبحت فناً وضرورةله ، ليفهم الحياة ، بل ليجعلها أكثر إنسانية ،
وقد ظهر هذا في أواخر القرنالرابع ق.م ، حين دخلت البشرية في أخطر تجربة وإمتحان ، ولا تزال تعانيهما ،بانتقالها الى طور الحضارة الناضجة ، وقد تحقق ذلك لاول مرة في تاريخ الانسانبانتقال وادي الرافدين ووادي النيل ، الى حياة التحضر والمدنية ، كظهور المدنوأنظمة الحكم والكتابة والتدوين والقوانين المنظمة للحياة.
والاهم من ذلك ،أن هذا التحول في الاسطورة ، لم يكن مرحلياً وإنما اكتسب صفة الديمومة حتى يومناهذا ، وستبقى الاسطورة حاجة روحية ، وضرورة موضوعية للانسان كالشعر في القرونالقادمة . فما دام هذا الانسان على وجه البسيطة ، فانه يحتاج الى هذا الفن ، لاسبابمختلفة .
والاسطورة والشعر توأم ، وعودة الشعر اليها ، إنما هو حنين الشعرالى ترب طفولته .وسنفصل القول في ضرورة الاسطورة وتأثيرها السحري لاحقاً .
ويرى ستراوس أنه إذا شئنا أن نعرب عن المواصفات المخصوصة والتي يختص بهاالفكر الاسطوري ، علينا أن نعتبر الاسطورة تقع في داخل الكلام وخارجه في آن معاً .وربما احتاج هذا التعبير الى ايضاح على النحو التالي: أللغة تنتمي الى مجال الزمنالقابل للاسترجاع Retrospectif لانها نظام ، ويمكن النظر في أي نظام ، يصرف النظرعن الزمن ، بينما ينتمي الكلام الملفوظ الى زمن غير قابل للاسترجاع .أما الاسطورةفتجمع بينهما ، وتتميز علاوة على ذلك ، بأنها قد تتعلق إيضأ بالمستقبل، لانها تقصدوما قصة ، وقعت احداثها في الماضي ، ولها في آن واحد امتداد الى الحاضر ، وارتباطبالمستقبل ، فحقيقتها إذن آنية وزمانية ولاتاريخية او سرمدية .
يقول ميشلية، وهومفكر سياسي ومؤرخ في الوقت نفسه.عن يوم الثورة الفرنسيه :في ذلك اليوم بات كلشيء ممكنا ، صار المستقبل حاضرا، أي أنه يعد ثمة زمان ، ومضة من ومضات الخلود . إنهذه البنية المزدوجة التي هي تاريخية وخارج التاريخ في آن معا ، تفسر كيف أنالاسطورة باستطاعتها أن تنتمي في الوقت نفسه الى حقل الحكي والى حقل اللغة، وفضلاعن إتصافها على صعيد ثالث بصفة الشيء المطلق.
وتعتمد الاسطورة في تقنياتهاعلى إستخدام الظلال السحرية للكلمة فالكلمات في أية لغة ذات وجهين ، وجه دلالييرتبط بالمعاني المباشرة للمسميات ، ووجه آخر سحري ، متلون بظلال متدرجة بين الخفاءوالوضوح ، قادرة علي الايحاء بمعان مباشرة ، واستثارة مشاعر وأهواء كثيرة . فكلمةشمس على سبيل المثال ، تدل على الجرم السماوي المضيء ، ولكنها في الوقت نفسه ، تعكسفي النفس معاني اخرى . فهي الوضوح ، وهي الانتظام ، وهي الصحو والعقل ، وهي الحقيقة
وعن طريق الاسطورة ، اكتشف الانسان نوعاً جديداً من التعبير ، هو التعبير الرمزي ،ويعد هذا التعبير الرمزي عاملاً مشتركاً في كل الافعال الحضارية ، أي في الاسطورة ،والشعر ، واللغة والفن والدين والعلم . وتتميز هذه الافعال باختلافاتها الكثيرة وإنكانت تحقق مهمة واحدة ، وهذه هي الموضعة Objectification . فنحن نموضع مدركاتناالحسية في كلمات اللغة ، وتتخذ مدركاتنا الحسية ، بتأثير التعبير اللغوي ذاته ،صورة جديدة ، تختفي فيها صور المعطيات المنعزلة ، وتتنازل عن طابعها الفردي . فنحنلا نصادف في الفكر الاسطوري والخيال الاسطوري إعترافات شخصية ، إذ تعني الاسطورةبموضعة تجربة الانسان الاجتماعية ، وليس تجربته الشخصية .
والاسطورة - كمامر بنا - عرض جماعي ، وقد ذهب دوركهايم الى القول باستحالة قيام أي فرد بوضع أسطورة، وأن ما يبتدعه أدباء مثل ملفيل وكفكا ليس أسطورة في رأي هايمان ، وإنما تخيل فردييمثل عملاً رمزياً يوازي الاسطورة ، لانها تعبر عن طقس عام ، فالاسطورة نتاج الشعبكله بدلاً من شاعر واحد . فلذلك كانت الاساطير التي إخترعها إفلاطون قبل هؤلاء ،خارج كتاب ( الجمهورية ) مثل أسطورة أسرى الكهف ، واسطورة إختيار النفس لمصيرها ،واسطورة الحساب بعد الموت ، لشرح وتوصيل أفكاره المجردة ، ولعلمه بما للاسطورة منسيطرة على النفوس ، ومن مقدرة على تثبيت الافكار والمعتقدات ، كما أنه وافق علىصناعة اساطير يجري تلقينها للصغار ، وفق خطة مدروسة ، من شأنها تدريب هؤلاء علىتلمس فكرة الخير الكامنة وراء العالم هذه الاساطير كانت تفتقد الى خصيصة النموالتلقائي التي تميز الاسطورة ، وتعبيرها عن تجربة جمعية مشتركة . ومثل هذهالمحاولات ، تقدم لنا مثالاً شديد الوضوح على صلة المعتقدات بالاساطير ، وضرورةالثانية للاولى بسبب النزوع الطبيعي عند الانسان نحو البيان ، والايمان ، وعزوفهمعن البرهان .
والاساطير الشفهية ، بشكل عام ، تلجأ كل اللجوء الى تكرارالمقطع الواحد ، مثنى وثلاث ورباع ، ليجعل بنية الاسطورة بادية للعيان .
إنالجمعية في الاساطير ، مصدر من مصادر قيمتها المعرفية ، وهي سبب مهم في أن يكونالتوصل الى رؤية شاملة أو متكاملة أكثر من سواها من أنواع الخطاب ، فضلاً عن أنهاأقل عرضة للتزييف .
الاسطورة إجمالاً ، إذ هي من مخبأ الفكر آلت الى حياةلها خاصة في وسط المسافة بين العقل والايمان . ومنها تنبع جميع تأملات اليونان [ الناس ] ومن بعدهم ، تأملات أحفادهم . لقد استخدم صاحب الفكرة كلمة اليونان لانكتابه قد إختص بالميثولوجيا اليونانية ، ولكن هذا لا يمنع أن تنطبق الفكرة على غيراليونان ، فلذا وضعت كلمة [ الناس ] بين قوسين معقوفين ، ليعرف القائل أنها من عندي .
إن الاسطورة ليست واقعا مستقلا ، لكنها تتطور مع الظروف التاريخيه ،واحياناً تحافظ علىشهادات غير متوقعه حول حالات منسية ، ودول زائله هنا تبدوالاسطوره وسيلة تقص ثمينة .
وللاسطورة مقدرة فائقة علىالافصاح عن مكنونات النفس البشرية ، وعنعالم الافكار المجردة ، تعجزعنهااللغة المحكية ، وذلك لأنها تمتلك لغة خاصة ، بهاقادرة على ترجمةاللامعقول ، واللامفهوم ، الى صورة ناطقة مفعمة بالحياة ، صارخة بالاحداث .
والاساطير دائمة الهجرة والترحال ، وانها تتلون دوماً بلون الحضارة التيتحل بها واليها تفد ، حتى ليغدو من الصعب ، بل ولربما من المتعذر ، القطعبصحةنسبتها الى بلاد بعينها ، وأبرز مثال على ذلك الاساطير اليونانية التييستشهدبها دائماً على أنها أساطير ، وكيف أن كثيراً منها مستمد من تراثالشعوبالمجاورة .فأوربا أخذت الافكار الاساسية من أساطير الشرق القديم ، مزجتها مع ما كانت تحمله في مواطنها من بذور أسطورية خاصة بتاريخها القديم.
ويرى ستروس أن في الاسطورة متسعاً لحصول أي شي ، وتتابع الاحداثلايخضع لأية قاعدة من قواعد المنطق أو من العلاقات ، ممكنة الحصول . غير أنهذه الاساطير التي تبدو إعتباطية في ظاهرها ، تخضع لنفس المواصفات ، بلكثيراً ما نجد فيها نفس التفاصيل ، وذلك في أنحاء مختلفة من العالم . يتساءلستروس : فكيف نفهم تشابه الاساطير الى هذا الحد من أقصى الارضالىأقصاها ؟ يجيب قائلاً : إن حل هذه المفارقة الاساسية التي هي من صلبطبيعة الاسطورة ، يتوقف بالدرجة الاولى على وعيها .
وفي الاسطورة ،يمتزج البشري والفوق البشري ، وهذا هو السبب الذيجعل الملحمتين : الالياذةوالاوديسة أساطير في المعنى الواسع للكلمة .
ويرى صلاح عبد الصبور أنالاسطورة نزوع الى تجاوز العلاقات ، وردودالافعال العادية للحياة ، أي أنلها منطقاً يختلف عن المنطق العادي، يعتمد علىاستمداد الخيال الطليق ، ولايخضع للعقل وإن كان لا يجافيه في احتوائه عادةعلى منطق العلة والمعلول . فالاسطورة إذن لا معقولة ولكنها ليست منافية للعقل.
والاسطورة تسجيلللوعي الانساني واللاوعي معاً .
والاسطورة نظام فكري متكامل ، إستوعب قلقالانسان الوجودي .
ويرى سمث أن الاسطورة تستنبط من العادات والشعائر لابالعكس ، وأن
العادات والتقاليد مستقرة ثابتة ، والاسطورة متحولةومتغيرة.وفي موقف آخر
يقول سميث نفسه : إن الاسطورة تفسير وتأويل لشعائردينية ، وهي على
العموم لا تؤلف إلا بعدما تزول أو تضيع الفكرة البدائيةالتي دعت الى إتخاذ
تلك الشعائر أو التقاليد.
ومن العناصر المهمة فيالاسطورة ، أنها تمثل السعي نحو السعادة الذي يجده
الانسان فيها ، وانهابأختصار تعبر عن الاحساس بان في الطبيعة ازدواجية وأن
في الانسان إزدواجيةوضديداً لم يجد له حلاً في حياته كما يقول بيريه .
وإذا كان هذا الفصل يهدفالى محاولة الوصول الى أقرب نقطة في الاسطورة، ويهتم بادراك عناصرهاوأشكالها أكثر من تعريفها ، فاني أرى نفسي أقرب الىرأي الدكتور محمد عجينهمن حيث الجوهر ، وإن أضفت هوامش قد تكونبسيطة فاقول : الاسطورة : نمط منأنماط التعبير ، أو شكل من أشكال التعبير نسيج وحده ، يمتاز بروح قصصية ،بدأ استجابة لضرورة موضوعية وسيلةًمعرفية ، تعليلية لظواهر الطبيعة لغرضفهمها من قبل الانسان - الذي يرمزالى المجتمع الانساني - والسيطرة عليها ،وعندما عجز عن ذلك - في قديمالزمان - سعى الى التآلف معها .
وبعددخول الانسان مرحلة المدنية ، تحولت الاسطورة الى حاجة روحية له ،والىنظرة فلسفية الى نفسه والى وجوده الاجتماعي ، معبراً عن إنفعالاتهالشعوريةواللاشعورية ، مفجراً الطاقة التخيلية المكتنزة في وعي الجماعة ولاوعيها ،فامتزج المعقول باللامعقول ، والمنطق باللامنطق ، والمكان باللازمكان وذلكمحاولةً لفهم الحياة أو لجعلها أكثر إنسانية في حاضره ، مستعيناًبهاليستشرف المستقبل بالصورة المثلى التي ينبغي أن تكون حياته عليها، وبذاصارت الاسطورة تمتاز بالاستمرارية الحيوية من الماضي ، وعبر الحاضر الىالمستقبل ، إنه الخط المستقيم للزمن ( البعد الرابع ) كما وصفه آينشتاين ،وبعبارة أوضح ، تحولت الاسطورة الى فن والى ضرورة ، لا يمكن للانسان
الاستغناء عنها أبداً ، لاسباب متنوعة سوف نطلع عليها في الفصول القادمةوبخاصة وهي تتناول بجدية موضوعات مصيرية للانسانية.
إن هذهالمحاولة المتعبة للاقتراب من تعريف الاسطورة ، لا تعفي القاريء منمتابعةالفصول اللاحقة ، ليدرك مميزات الاسطورة ، وإن عجز عن تعريفها .
ومنالمحتمل أن يكتشف مميزات أخرى حين يطلع على أسباب الاسطورة أو وظيفتها أوسبل استخدامها في الادب والحياة…الخ ، وحينئذٍ ينفعنا باضافاتهوايضاحاتهلهذه المتاهة العظمى التي سميت بالاسطورة.