دمشق- سيريانديز

حرك تكرار وزير المالية الدكتور مأمون حمدان لعبارة «موازنة عام 2018 توسعية وليست انكماشية» على مسامعنا على مدار يومي مناقشات المجلس الأعلى للتخطيط الاقتصادي والاجتماعي لخطط الوزارات الاستثمارية، الآمال الراكدة في النفوس بقرب حصول تحسن اقتصادي ينعكس على معيشة السوريين، الذين لن ينبهروا برقم الموازنة الكبير، المقدر بـ3 آلاف مليار ليرة، ولا حتى بزيادة حجم الدعم إلى 400 مليار ليرة، فالمهم أن يترافق ذلك مع واقع معيشي أفضل عبر تخفيض الأسعار أو زيادة الأجور، مع الاكتفاء بالإشارة إلى وجود زيادة بنسبة 8% نتيجة ترفيع العاملين، وسط زيادة أيضاً في الانفاق الاستثماري الذي أقر بـ825 مليار ليرة، وهنا تعود «ليست انكماشية» لترن في أذاننا، فهل نستبشر خيراً من هذه التصريحات المتفائلة بواقع اقتصادي أفضل بعد سنوات عجاف تركت ندبات عميقة عند السوريين.

تساؤلات نضعها بعهدة من كان بها خبيراً لعلهم يضعون الأمور في نصابها الصحيح مع توضيحها للمواطن، الذي يتحدث الجميع باسمه من دون أن يجد لتحسين معيشته سبيلاً.
موازنة توسعية
انقسمت آراء أهل الاختصاص بين مؤيد لتفاؤل وزير المالية بأن الموازنة ليست انكماشية وآخر غير مؤيد له ليصفها بالموازنة التوسعية التقشفية، حيث يبدي د.أكرم الحوراني الوكيل العلمي في كلية الاقتصاد تفاؤله بموازنة عام 2018 بقوله: تبعث في أنفسنا التفاؤل بأنها لحظت زيادة قدرها 15% من الاعتمادات المخصصة للإنفاق الجاري والاستثماري، بما أنها أكثر بكثير من معدل ارتفاع المستوى العام للأسعار، يعني أن جزءاً كبيراً منها فيه زيادة حقيقية، بالتالي لا بد من انعكاسها الإيجابي على مستوى الاقتصاد الوطني عموماً وعلى مستوى معيشة الشعب خصوصاً وتحديداً لذوي الدخل المحدود، الذين يعيلون نحو 80% من أبناء سورية، لافتاً إلى نقطة هامة تمثلت في أن الموازنة بينت على أساس احتساب 500 ليرة كسعر صرف للدولار أمام الليرة، ما سينعكس في النشاط الاقتصادي وحركة التداول، ويعطي إشارة بأننا نتجه نحو الاستقرار في سعر الصرف، وهو أهم من انخفاض سعره في هذه المرحلة.
بدوره أكد د. سنان ديب رئيس جمعية العلوم الاقتصادية في اللاذقية أن الموازنة ليست انكماشية، حيث جاءت في وقت الإحاطة بجزء من مفاعيل الأزمة الاقتصادية وزيادة الطاقات الإنتاجية، حيث رصدت أموالاً كبيرة لإعادة الانطلاقة الإنتاجية.
انكماشية بامتياز
في حين ذهبت الباحثة الاقتصادية د.رشا سيروب في اتجاه مختلف، لتؤكد أن الموازنة انكماشية بامتياز وذلك بناء على الحاجات الضرورية للمرحلة الراهنة، فإذا ما قورنت مع العام الفائت نجد أن مقدار الزيادة في موازنة عام 2017 مقارنة مع عام 2016 بلغ 680 مليون ليرة بنسبة زيادة 34,34% ، ومع ذلك لم يكن لها انعكاس فعلي على حياة المواطن وما زالت الاعتمادات المخصصة للإنفاق الاستثماري لا تتجاوز 25-27% من إجمالي اعتمادات الموازنة، وهي نسبة منخفضة جداً وغير منسجمة مع الشعارات المرفوعة حول حجم الضرر المادي نتيجة الحرب وضرورة تأهيل البنية التحتية وأهمية إعادة الإعمار.
زيادة اسمية
وترى الدكتورة سيروب عدم أخذ مقياس الزيادة في موازنة عام 2018 على أساس سعر الصرف أو القيمة الاسمية للاعتمادات، إنما يجب أن يقاس معدل التغير بالاعتماد على القيمة الحقيقية وذلك من خلال مؤشر أسعار المستهلك (CPI) وهو المؤشر الرئيسي للتضخم، من خلاله يمكن معرفة القيمة الحقيقية للتغير في الإنفاق، وعلى اعتبار أن معدل التضخم عام 2017 مقارنة مع عام 2016 تجاوز 30% (وبفرض ثباتها في العام 2018) سنجد أن التغير الحقيقي في اعتمادات 2018 ذو قيمة سالبة (تتجاوز- 15%) أي أن هناك انخفاضاً حقيقياً في الاعتمادات وأن الزيادة هي زيادة اسمية وليست فعلية، وبالتالي لن تنعكس هذه الزيادات الاسمية على تحسين المستوى المعيشي للمواطن.
فعلية ولكن
يحاول د. مدين الضابط في كلية الاقتصاد مسك العصا من الوسط بإبداء تفاؤله بمستقبل الاقتصاد المحلي، الذي بدأ يعود إلى الإنتاج وخاصة بعد استرجاع بعض حقول النفط والغاز بفضل الجيش العربي السوري، لكن ذلك يتطلب إصلاحاً حقيقياً مع التركيز على البعدين الاقتصادي والاجتماعي في هذه المرحلة ولاسيما أن البلد يبدو اليوم وكأنه يعيش حالة طبيعية بعد حصول الانفراجات العسكرية، ليؤكد أن زيادة الموازنة بنسبة 15% عن موازنة العام السابق وإضافة 400 مليار ليرة قيمة الدعم الاجتماعي، والزيادة في الانفاق الاستثماري تبين أنها موازنة توسعية لكنها واقعياً الزيادة الاسمية في الانفاق الاستثماري لا تعني زيادة توسعية، حيث يمكن القول: إنها زيادة فعلية عند حصول استقرار عام في مستويات الأسعار وأسعار الصرف، وهذا يحصل اليوم لكن يفترض توجيهها من خلال خطة واقعية على المدى القصير، فهل تم وضعها وهل صيغت سياسة مالية مرتبطة بالسياسات الاقتصادية؟
موازنة البنود
ويستمر د.الضابط في طرح تساؤلاته المحقة، فيتساءل هل زيادة الإنفاق الاسمي في الإنفاق الاستثماري انطلقت من أولويات حقيقية في الوزارات وقطاعات الدولة، فللأسف لا نزال في سورية نعمل وفق موازنة البنود، التي تعتمد الأولويات عشوائياً، وهل وضعت الأرقام وفق خطط مدروسة تصبح أولويات حقيقة فعلية، مشدداً على حصول هدر كبير في المال العام جراء هذه الآلية، التي يتوجب إعادة النظر فيها عبر سياسات واضحة للوصول إلى أرقام حقيقية في الإنفاق الاستثماري، مشدداً على ضرورة الارتقاء إلى موازنة البرنامج والأداء، بغية الاستفادة من الموارد بشكل أفضل وترشيد الإنفاق، ما يساعد حتماً على تحسين الوضع الاقتصادي بالموارد والإمكانات المتاحة، مؤكداً على أهمية الإصلاح الضريبي، متسائلاً: من أين سيتم تأمين التمويل المناسب لهذه الموازنة الكبيرة؟ مستغرباً الوقوف مكتوفي الأيدي أمام ضياع موارد مهمة على خزينة الدولة من خلال التهرب الضريبي من دون التمكن من التصدي لهذه المشكلة، فاليوم حسب قوله تغيرت مواضع الثروات ورؤوس الأموال وسط تفاقم التهرب الضريبي، الذي يمكن تحصيل موارده بسهولة، لكن بدل ذلك تحصّل غالباً من ذوي الدخل المحدود بشكل يزيد العبء الضريبي على هذه الفئات بينما المطلوب كشف مطارح التهرب الضريبي والتكليف الفعلي لأصحاب الثروات وكبار المكلفين، للوصول إلى إصلاح ضريبي فعلي، يعد تحدياً حقيقياً.
ليس دعماً
خصصت الموازنة مبلغاً قدره 750 مليار ليرة بإضافة 400 مليار ليرة للدعم الاجتماعي، وهنا لا ترى د. رشا سيروب في الموازنة أي دعم حقيقي يصل للمواطن، فتقول: المشكلة في جوهر مفهوم الدعم الذي يعد ضرورة وحق للمواطن وواجب على الدولة (وليس منّة) ما دامت غير قادرة على تحسين الوضع المعيشي له، ولا يجوز أن تردد دوماً أن النسبة الأكبر من العجز يعود إلى الدعم الاجتماعي، لتتساءل: أليست الإعفاءات الضريبية على الشركات ورأس المال نوعاً من الدعم؟ أليست التسهيلات والإعفاء من الغرامات نوعاً من الدعم ؟ آن الأوان لتقديم الدعم للمواطن وليس فقط إلى رأس المال.
يخالفها د.سنان بتأكيده على زيادة المبالغة المخصصة للدعم، الذي يرجعه إلى حاجة السوريين له في ظل الانعكاسات الاجتماعية للأزمة، لافتاً إلى أهمية تخصيص حوالي 4.5 مليارات لذوي الشهداء.
لم تلحظ زيادة الأجور
يترقب السوريون زيادة الرواتب بفارغ الصبر لتحسين واقع معيشتهم المتردي، لكن هذا البند لم يتطرق إليه وزير المالية في تصريحه، ليكتفي بالإشارة إلى نسبة 8% الناجم عن الترفيعات وليس زيادة الرواتب المأمولة، وهنا تقول الدكتورة سيروب: الزيادة في كتلة الرواتب يعود الجزء الأكبر منها إلى الزيادة الدورية على الرواتب وليس بسبب توفير فرص عمل جديدة أو زيادة معدلات التوظيف، فضلاً عن التعويضات لذوي الشهداء، من دون لحظ تحسن في حياة المواطن المعيشية.
ويوافقها د.مدين الضابط بالتأكيد على أن الموازنة لم تلحظ أي زيادة في الأجور حتى الدعم الاجتماعي المقدم ليس هو المطلوب، حيث يفترض العمل على تحسين مستوى معيشة المواطن، في ظل الفجوة الكبيرة بين مستوى الدخل وتكاليف المعيشة والمستوى العام للأسعار، من دون حصول زيادة تضخمية وذلك من خلال تحسين كفاءة وإدارة الموارد الحالية.
بدوره، يشير د. سنان ديب إلى أن الموازنة لم تلحظ زيادة في الرواتب باستثناء الترفيعات، لذا من الضروري أن تترافق مع برنامج حكومي تنموي مدعوم بقرارات تحرض الرساميل الخاصة المكتنزة والأموال المهاجرة والتركيز على الإدارة النقدية لسعر الصرف بشكل ينعكس على المستوى المعيشي للمواطنين مع زيادة مخصصات وزارة التموين للتدخل الإيجابي.
زيادة مرتقبة
يخالفهم الدكتور أكرم حوراني بتأكيده بثقة حصول زيادة أكيدة في بداية العام القادم كنوع من التعويض على ذوي الدخل المحدود، فكتلة الرواتب والأجور الحالية بلغت 800 مليار ليرة، سترتفع إلى 1.2 تريليون ليرة مع الزيادة المرتقبة في بداية العام القادم لتبلغ قرابة 30 مليار ليرة حسب تصريحات المسؤولين في الإدارة المالية، وهذا المبلغ ستغطيه الموازنة.