د. لمياء عاصي
إن الأزمة السورية التي قارب عامها الرابع على الانتهاء، وما يشهده العالم من آثارها الكارثية على المكونات المادية والبشرية للبلد، وما نتج منها من ازدياد أعداد الفقراء والعاطلين من العمل وطالبي الهجرة إلى بلدان أخرى. يضعنا مباشرة أمام الوضع الاقتصادي المعقد الذي فاقم المصاعب المعيشية للسوريين إلى مستويات غير مسبوقة.
عندما بدأت الحرب على سورية في بدايات 2011، كانت الحكومة آنذاك بالتعاون مع ممثلي القطاعات المختلفة تضع اللمسات الأخيرة على الخطة التنموية الخمسية الحادية عشرة، آخذة في الاعتبار نواحي القصور والخلل التي اعترت الخطة الخمسية العاشرة، والسؤال الملحّ اليوم، هل ما زال بإمكاننا الحديث عن التنمية الاقتصادية… وتحقيق طموحنا باقتصاد معافى ينمو إيجابياً…؟ هل ما زالت الأفكار الاقتصادية التي وردت في تلك الخطة… قابلة للتبني والتطبيق؟ أسئلة تفرض نفسها اليوم وتحتاج للإجابة عليها.
إنّ التحديات التي تواجه عملية التنمية في سورية كثيرة وأهمها: نسب الفقر العالية، البطالة وصعوبة تأمين فرص العمل، العجز في الموارد المائية، ازدياد الطلب على الطاقة، منظومة التعليم ومخرجاتها التي تحتاج للكثير من التطوير والتحديث، عدم التوازن التنموي بين المناطق، ضعف القطاع العام وخسائره الضخمة التي تتحملها الموازنة العامة للدولة، الضعف الإداري والمؤسساتي ودوره في إرباك الاستثمار الحكومي والخاص، فما هو الوضع بعد أربع سنوات من الحرب القذرة التي ضاعفت من حدة معوقات التنمية.
من المعروف، أنه لا بد لاستراتيجية التنمية في شكل عام، أن تعمل على محورين أساسيين، الأول يتعلق بتحقيق نمو حجم عوامل الإنتاج الأرض، رأس المال المادي، رأس المال البشري ، والمحور الثاني، هو رفع إنتاجية هذه العوامل من خلال التقدم التقني، رفع كفاءة العامل البشري، الإصلاح المؤسساتي، الإصلاح الإداري .
هنا نستعرض، بعض الأفكار التي تناسب التنمية في سورية والتعافي الاقتصادي، وتتركز حول المحاور الرئيسية التالية:
المحور الأول: التركيز على الإنتاج الوطني ورفع الناتج المحلي الإجمالي، وأن يكون النمو الاقتصادي المستهدف، هو نمو تضميني، بمعنى مشاركة واسعة من الناس في هذا النمو، بحيث ينعكس على الاستهلاك للمنتجات الوطنية، ويؤدي إلى دوران عجلة الإنتاج، وقد تبنت الخطة الخمسية الحادية عشر، رفع النسبة المستهدفة لمساهمة الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي، من 15 في المئة إلى 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا يجب أن يترافق برفع إنتاجية ومساهمة القطاعات الأخرى مثل، القطاع الزراعي وقطاع الخدمات.
في نفس المحور، يمكن إضافة نقاط مهمة مثل: ربط البحث العلمي بالصناعة لتطوير المنتجات السورية وإغنائها بالمكون التكنولوجي الذي يعتبر حالياً منخفضاً، والبدء بإقامة العناقيد الصناعية، التي تهدف لتجميع الصناعات التمهيدية والتكميلية لصناعة معينة، وتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة لتكون جزءاً من العناقيد الصناعية وكمثال نذكر، صناعة الألبسة وصناعة الجلديات، صناعة المفروشات.
المحور الثاني: العمل على إدخال صناعات جديدة، تملك فيها سورية مزايا تنافسية، مثلاً: صناعة الحلال، والصناعة الخضراء، ومشاريع الطاقة البديلة، التي تعتبر اتجاهات هامة في الاقتصاد العالمي، وأهم ما تقدمه، صناعة الحلال، وتعطي قيماً مضافة لمنتجات تقليدية، كما تمنحها القدرة على الدخول إلى جميع الأسواق التي يوجد فيها مستهلكون مسلمون في العالم، ولا تحتاج هذه الصناعة إلى أكثر من جهود تنظيمية في مجال معايير الحلال، اليوم دول أوروبية تقوم ببعض هذه الصناعات.
المحور الثالث: إحداث مناطق صناعية خاصة وإعطاؤها مزايا تحفيزية، واستهداف الصناعات ذات الاستخدام الكثيف للمعرفة والتي ينتج منها قيم مضافة عالية، ومدخلاتها ترتكز على العنصر البشري، والأمثلة على هذه الصناعات كثيرة، مثل صناعة البرمجيات والتطبيقات الحاسوبية المعتمدة على الوسائط المتعددة وأفلام الكرتون، التي تشهد ازدهاراً في العالم وتستطيع سورية أن تنمي هذا القطاع في شكل يؤدي إلى امتصاص جزء من البطالة وترفع كفاءة استثمار العامل البشري.
إن تحقيق الأفكار السابقة ليست عملية مستحيلة التحقيق، حتى في هذه الظروف الاستثنائية التي تمر بها سورية، صحيح أنها تحتاج لجهود ورؤوس أموال كبيرة وتمويل، غير متوافرة حالياً لدى القطاع العام أو الخاص، ولكن، هناك طرق جديدة ونقاط ارتكاز استخدمتها الكثير من الدول، للخروج من مأزق التمويل وهي:
المرتكز الأول: الشراكة الفعالة والذكية بين القطاع العام والخاص، التي تقوم على بنية مؤسساتية وقانونية قوية، وتضمن حقوق الدولة كما تؤمن أيضاً حقوق الأفراد وهذا يتطلب وجود محاكم خاصة لحل النزاعات التي تنشأ جراء هذه الشراكة، ويكون الاستثمار الحكومي أكثر حضوراً في القطاعات الاستراتيجية، مثل قطاعات الطاقة والبنى التحتية والمرافق الحيوية وغيرها، يجب أن تؤسس الحكومة صندوقاً سيادياً ليمثل الدولة، وأن يتاح لبعض المؤسسات والصناديق الخاصة، مثل مؤسسة التأمينات الاجتماعية وصناديق التعاون للمهندسين وغيرهم أن تلعب دوراً في التنمية، وأن تنفذ مشاريع إعادة الإعمار، والطاقة والبنى التحتية والمرافق العامة وشق الطرق الدولية وغيرها بطريقة الشراكة بين العام والخاص.
المرتكز الثاني: تعبئة المدخرات الصغيرة في العملية التنموية، من خلال ما يسمى باقتصاد الثقة، والذي يكون عبارة عن مشاركة المواطنين في ملكية الأصول الوطنية، بالاكتتاب في أسهم ومن خلال ملكيتهم في هذه الأصول التي تعود عليهم بمردود مادي وتعطيهم القدرة على الإدارة ومراقبة الأداء.
لتحقيق التنمية والنهوض الاقتصادي، لا بد من عملية تطوير أداء المؤسسات الحكومية، لأنها تلعب دوراً مؤثراً في العمليات الاقتصادية ولا سيما رفع كفاءة الاستثمار العام والخاص مما يدفع دوران العجلة الاقتصادية، لذلك فإن رفع الأداء في تقديم الخدمات العامة واستخدام معايير الأداء والإدارة المالية السليمة لتعظيم الاستفادة من الأموال العامة، كل ما سبق ذكره عوامل محلية يمكن العمل عليها بشكل محلي وذاتي وتحقيق نتائج ملموسة في التنمية.
*-وزيرة سابقة في سورية