كتب: سامر محمد إسماعيل
قول على قول، ودخول في التكرار؛ والتكرار عدم، وموت وفناء؛ فأيُّ قراءة اليوم يمكن تقديمها في شعر أدونيس- 1930 - وفكره وكتاباته ودراساته النقدية الغزيرة؟
تلك الكتابات التي لم تتوقف منذ نشره لقصيدته الطويلة " فراغ" عام 1954؛ متبِعاً إياها بديوانيه " قصائد أولى-مجلة شعر-1957" و" أوراق في الريح-مجلة شعر-1958" الكتابان اللذان كانا جذوة الشاعر الرائي، أو كما يسميه رامبو " الرائي الكبير- الملعون الكبير"؛ حيث جاء إصرار الشاعر الحثيث على اقتفاء أهم جذر من جذور الحداثة العربية المعطّلة منذ سقوط مدينتها بغداد عام 1258 على يد المغول، وانكفاء هذه الحداثة بمفهومها المعرفي والحضاري مع الغزوات الصليبية المتعاقبة؛ وسيطرة العثمانيين فيما بعد على الأقاليم العربية لأربعة قرون من الزمن.
حداثة النص الذي كتبه صاحب " تاريخ يتمزق في جسد امرأة-الساقي-2002" كان قد وضعه ناثرو وعرفانيو الحداثة العربية؛ ليظل مغيّباً في بطون الكتب و نفائس مؤلفات متصوفتها؛ و التي لم تدخر السُلط العربية جهداً لطمس معالمها الأدبية وتكفير منجزها، وإزاحتها عن سياق تطورها الطبيعي وجوهرية ريادتها.
من هنا كانت قصائد أدونيس وآرائه مع جيل "مجلة شعر" التي أسسها مع يوسف الخال خمسينيات القرن الفائت بمثابة الملهم لكتابة تعود فيها اللغة لتنفجر وتنسلخ عن ضوابطها وأغلالها التاريخية؛ لا بل يمكن اعتبار أن " الأدونيسية"
أصبحت اليوم تياراً تأثّر به عشرات الشعراء والمثقفين من مغرب الأرض إلى مشرقها؛ فلم تُجدِ محاربة هذا العوليس، الأورفيوس من قِبل نُخب البلاط العربي ودهاقنة المعارضة على حدٍ سواء، ومحاولتهم تسقّط أخباره وتشويهها وشيطنة نصوصه؛ من إعاقة المخيلة الأدونيسية وإعطابها؛ وحين لم يتمكن هؤلاء من تكفير قصيدته وتحريمها وتصفيتها إبداعياً ونفي شعريتها؛ بادروا إلى محاولاتٍ لم تتوقف حتى اليوم لتصفية شاعرها، إذ بدأت أجنحة في التيار الرسمي للثقافة العربية والمتعصبة جهلاً لنسق القصيدة الكلاسيكية؛ لا معرفة؛ والمتمترسة وراء اتحادات كتّابها ونفوذها في الجرائد والمجلات الرسمية والجرائد الممولة بالمال الجاهل؛
بمحاولة إفراغ الأدونيسية من فنيتها ونبرتها الثورية؛ ومحاولة تقديم قراءاتٍ تجعل من الشاعر مجرد نجمٍ إعلامي لا أكثر؛ "تقليعة فرنجية مدسوسة ومؤامراتية" على الشعر العربي والتراث الحصيف؛ متناسين أن أدونيس هو من أوائل المثقفين الذين عملوا وبجهدٍ غير مسبوق على النبش في التراث العربي المهمل، والمرمي والمحجوب، منذ وضعه لكتابه الأطروحة " الثابت والمتحول-1974" بأجزائه الأربعة، بل إنه عمل دون كلل أو ملل على إصدار "ديوان الشعر العربي-مختارات- بين عامي 1964- 1996" وبأجزائه الثلاثة الضخمة؛ مقتفياً تأصيل أصول الحداثة في القصيدة العربية، مستنهضاً طاقة النص الحديث كشاهد عصر لا يقطع صلته بالتراث، ولا يلغيه، بل يستلهمه، ويضيء عليه في أشعار أبي نواس والمعري والمتنبي وابن عربي وأبي تمام وسواهم؛ وهذا ما أكمله صاحب " فاتحة لنهايات القرن-1980" في كتاب من أربع مجلدات اشتغل عليه خمسة عشر عاماً وحمل عنوان " ديوان النثر العربي-دار بدايات- 2011" معيداً قراءة أنساق مجهولة من الكتابة العربية، الكتابة التي لطالما دافع عنها الشاعر السوري؛ منافحاً عن طابعها المدني الذي ازدهر في كنف الحواضر العربية، واضمحل باضمحلالها، وأفل بأفول ورّاقيها ونسّاخها ودُمّر بتدمير مكتباتها الكبرى.
لقد كان النص الأدونيسي يسعى على الدوام أن يكون منزّهاً عن الإجماع القرائي، عابقاً بقوة النثر النابع من الحدس والتأمل في صميميته ورهافة صناعته الذوقية، حيث عمل أدونيس على إعادة الاعتبار إلى "ثقافة الأذهان اللطيفة" كما أسماها الجاحظ؛ أو كما يقول عنها أدونيس نفسه في كتابه " الصوفية والسريالية-الساقي-1992": " الكتابة كهزة كيانية، زلزالٌ في اللامرئي يزلزل بدوره المرئي، كتابة بالأعصاب والارتعاشات والتوترات الجسمية والروحية، كتابةٌ بالشهيق والزفير، كتابة انبهار، كتابة تُدخل في الكلمات نفسِها أعصاباً".
إن محاولة النقد الجرائدي المارق -وعلى مر سنواتِ طويلة- إحالة الشاعر الكوني إلى بيئة غنوصية باطنية؛ مبوباً نتاجه الثرّ والخلاّق ضمن تصنيفات فئوية وتحت مدينية، دفع بعض رواد هذا التيار المتشنج إلى اعتبار مجرد ولادة الشاعر ونشأته تهمةً جاهزة! فتارةً تناولته هذه الصحافة الثقافية الصفراء كشحاذ لجائزة نوبل، وتارةً وضعته في خانة " شاعر النظام" أو "الشاعر الشبيح" كما أطلقت عليه بعض صفحات "الفيس بوك" المعارضة التي هدرت دمه عام 2011؛ مما اضطر الشاعر لمغادرة بيروت إلى باريس بعد مخاطر حقيقة كان معرضاً لها هناك؛ فيما ذهب البعض الآخر لتصويره كشاعر المؤتمرات والمهرجانات الدولية، الشاعر الذي لا ينزل على أرض، متنقلاً من ظهر طائرةٍ إلى طائرة، ومن بلدٍ إلى بلد؛
وذلك دون أن تفكر هذه الأقلام لمرة واحدة بتقديم قراءة جدية في قصيدة أدونيس المتمردة المترجمة لكل لغات الأرض الحية. القصيدة التي استردت تراثاً من الحداثة العربية الموءودة. على العكس تماماً؛ كانت الكثير من الأقلام والفضائيات العربية تسن سكاكينها وكاميراتها في كل مرةٍ يتردد فيها اسم أدونيس في أروقة نوبل؛ وحتى قبل الإعلان عن اسم الفائزين بجائزة المعهد السويدي،
كانت هذه المؤسسات والأقلام توجه تقاريرها وتدبّج مقالاتها وزاويا كتّابها لشن الهجوم على صاحب " المسرح والمرايا-دار الآداب-1968" مؤججةً ثأرها الغامض مع الشاعر الذي اتهمته ومنذ صدور أول عدد من مجلة " شعر" عام 1957 بالعمالة للمستعمر الأجنبي، في حين ذهب بعضها الآخر إلى رفع السقف، متهمةً صاحب " قبر من أجل نيويورك" بالعمل مع المخابرات المركزية الأمريكية.! ليس هذا وحسب، بل روّجت بعض الكتابات تهمة تخوين الشاعر والسعي للتطبيع، وتلبيته لدعوات أوروبية شارك فيها شعراء إسرائيليين؛ وثمة من فتح النار على صاحب " مفرد بصيغة الجمع-دار العودة-1975" ملصقاً اسمه بدولة "الولي الفقيه"، وكمرّوج للأفكار القروسطية كالإمامة والنبوة، والكتابات الصفراء، منجزةً له تهمة زيارة بلده والتصالح مع النظام؛ وهو الشاعر الذي منعت السلطة في سورية تداول اسمه في تلفزيونها، وعدم وضع أيٍ من نصوصه في مناهج التعليم الحكومي، بل إن اتحاد الكتّاب السوريين قام بفصله من عضويته، الحادثة الشهيرة التي انسحب على إثرها كل من أنطون مقدسي وسعد الله ونوس وحنا مينة من الاتحاد احتجاجاً على فصل الشاعر وتنحيته؛
أما الحادثة الأغرب فكانت بطباعة نصوص كتبها أدونيس وضمّنها مؤلفَه "الثابت والمتحول" تحت عنوان: "الفكر المستعاد، أو عصر النهضة"، تناول فيها صاحب "أغاني مهيار- دار مجلة شعر-1961" نقدياً أعمال كل من الشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا والكواكبي، وكتابات الشيخ محمد بن عبد الوهّاب؛ إضافةً لثلاثة مقالات كتبها الشاعر إبان الثورة الإسلامية في إيران في "جريدة النهار العربي والدولي- 1979" ليصار لطباعتها في كتيب نُسب فيه لأدونيس الولاء للوهابية والخمينية في آنٍ معاً!، وليتم إرسال هذا الكتيب الملفق " بكل أمانة" إلى لجنة نوبل للآداب.!
رغم ذلك كله؛ ستبقى المائدة العامرة التي اقترحها وما يزال صاحب " الكتاب- دار الساقي-1995" لقراءة الموروث بنظرة جديدة؛ حاول عبرها الشاعر تحقيق ما يشبه "استقلالاً ثقافياً" نحو حداثة عربية تستوي مع ما تكتنزه نصوصه من طاقة دلالية رمزية؛ وتتجاوز في كثيرٍ منها غلالات الشعر التقليدي وموسقة جمله وتراكيبه، إذ سيبقى أهم ما يميز مثل القراءة الأدونيسية للعالم هي إضاءة الشاعر السوري على قواميس تعبيرية عالية في خطابٍ عابر للأزمنة؛ منسجماً كبنيّة كتابية واحدة دائمة التساؤل عن فداحة ما حذفته "الدولة العربية-الإسلامية" منذ نشوءها تاريخياً من صُحفنا الأدبية الأولى..