كتب: نعمان صاري
اللاذقية آواخر صيف عام 1931 , الحدث هو زيارة أم كلثوم للمدينة لإحياء حفلة فن وطرب , الخبر على الصفحات الأولى لصحف المدينة كصدى اللاذقية والرغائب وغير ذلك من الصحف التي كانت تصدر في المدينة , والحدث هو شاغل الناس في جلسات المقاهي وسهرات البيوت في مدينة صغيرة هادئة لم تعتد مثل هذه المناسبات . وعلى الرغم من أن البث الإذاعي لم يكن قد وجد طريقه للانتشار بعد , إلا أن شهرة أم كلثوم كانت قد ترسخت من خلال الأسطوانات ومن خلال ما تكتبه الصحف والمجلات إضافة إلى الأعداد القليلة من الناس الذين أتيح لهم أن يحضروا حفلاتها في بيروت أو في بر مصر .
عند عصر السادس عشر من أيلول عام 1931 توقفت في ساحة الشيخضاهر سيارة (بونتياك ) قادمة من بيروت يستقلها كل من الست أم كلثوم وشقيقها ومرافقها الدائم في تلك الأيام الشيخ خالد ومتعهد حفلاتها في سورية ولبنان البيروتي الشهير أحمد الجاك , وتوقف وراء السيارة باص صغير , أو بوسطة حسب تعابير تلك الأيام , تحمل أعضاء الفرقة الموسيقية ومنهم محمد القصبجي الملحن وعازف العود الشهير , وعازف الكمان المعروف سامي الشوا والقانوني الأشهر وما يسترو الفرقة لسنوات طوال محمد عبده صالح . خلال فترة وجيزة انتقال أفراد الموكب مع حقائبهم وآلاتهم الموسيقية ليستقلوا عددا من عربات الخيل المنتظرة متجهين إلى الكازينو حيث إقامة الست وفرقتها ليستريحوا من عناء السفر وليستعدوا لحفلة الغد التي ستقام على مسرح مقهى شناتا غير بعيد عن الكازينو سوى خطوات .
اليوم التالي كان يوما مشهودا من أيام المدينة , الحدث على صدر الصفحات الأولى من الصحف , والطريق الترابي بين الكازينو ومقهى شناتا والملي بإشجار الزنزلخت يحتله المهتمون والفضوليون على الرغم أن ساعات عديدة ما زالت تفصلنا عن موعد الحفل الكبير, زرقة بحر أيلول تبتلع قرص الشمس , أضواء الكازينو ومثلها أضواء مسرح شناتا تنير جوانب ذلك الطريق الترابي , تبدأ عربات الخيل بالوصول إلى المقهى حاملة وجهاء المدينة وأعيانها القادرون على دفع ثمن بطاقات الدخول التي يقال أنها وصلت إلى ليرة ذهبية !!! بعد ترقب ووسط تصفيق الحضور تطل أم كلثوم أمام فرقتها بانحناءة خفيفة ترد بها على ترحيب وتصفيق الحضور .
يبدأ الحفل بإغنية ( يا آسي الحي ) وهى من الحان الموسيقار ابو العلا محمد على وكلمات إسماعيل صبري
ثم أغنية ( كم بعثنا مع النسيم سلاما ) من ألحان صبري النجريدي , وبعد استراحة قصيرة بدأت الفرقة بعزف أغنية القصبجي ( إن كنت اسامح ) عندها وقف ( منح هارون ) وكان في مقدمة الصفوف ليقول : يا أم كلثوم , يا أم كلثوم . توقفت الفرقة عن العزف واتجهت الأبصار صوب صاحب النداء مستطلعة الخبر فبدأ منح هارون منشدا :
يا أم كلثوم هذان استغاباك .......... وأظهرا ريبة في أصل منشاك
ازداد استغراب الجميع ولا سيما (هذان ) اللذان كان يشير إليهما متهما إياهما باستغابة الست , بعد برهة صمت تابع منشدا :
هذا يقول لعمري أنها ملك .......... وذا يقول ملاك فوق أملاك
أما أنا فاسمعي قولي فلست أرى...... بأسا أن أدعيك الصوت في الحاكي
(كنافة ) رقة ( معجوقة ) أدبا ........ ومن (حلاوة ) حسن الصوت أعطاك
ياحاضرا أم كلثوم وحفلتها .......... (كل واشكر ) الجاك إن الفضل للجاك .
والجاك الذي يود صاحبنا شكره هو , كما أسلفنا , الوجيه البيروتي المعروف أحمد الجاك الذي كان صديق الست ومتعهد حفلاتها في الشام , وأما ( كنافة , ومعجوقة , وحلاوة , وكل واشكر ) فهي كما تعرفون أسماء أشهر الحلويات اللاذقانية , ولقد زعم بعض ( الخبثاء ) أن شاعرنا تعمد وضع أسمائها ربما للإشارة إلى أن تلك الحلويات كانت حاضرة عندما أولم للست ومرافقيها في منزله الذي كان ناد وصالون أدب أكثر منه منزل .
نامت المدينة واستيقظت ولا حديث لها إلا وقائع تلك الحفلة والاستغابة التي تحولت إلى مديح وثناء , وربما تحت تأثير ذلك النجاح تقرر أن تقام حفلة أخرى في اليوم التالي وفي ذات المكان .
في صبيحة التاسع عشر من أيلول 1931 كانت ساحة الشيضاهر على موعد مرة ثانية مع الموكب المؤلف من سيارة ( البونتياك والبوسطة ) ولكن هذه المرة لوداع الست ومرافقيها المتجهين إلى مدينة حلب , لوح الجميع بأيديهم عندما شق الموكب طريقها شرقا . عندما صدرت الصحف صباح ذلك اليوم كان على صفحتها الأولى أبيات كتبها محمد سلامة صوفي :
هي ليلة القدر ذي أم ليلة الطرب ..........فيها تجلت لنا فنانة العرب
أم تلك بلقيس فوق العرش جالسة .......... أم أم كلثوم بنت الفن والأدب
حمائم الأيك فيها قلدت نغما .......... وهل تقاس مصابيح على الشهب
والعندليب رأي تقليدها عبثا .......... فناح من فوق ذات الغصن : واخرب
نعمان صاري
|