الأربعاء 2012-05-02 02:49:57 صحافة وإعلام
الأزمة العالميّة والربيع العربي والمال السياسي

سمير العيطة

لم يتساءل كثيرون عن دور الأزمة الاقتصاديّة والمالية العالميّة التي انفجرت عام 2008 في انطلاقة "الربيع العربيّ". وبشكلٍ عام اعتمد معظم المحلّلين على معدّلات النموّ الاقتصادي في البلدان العربيّة وعزلة الأنظمة المصرفيّة فيها للتقليل من أهميّة أثار هذه الأزمة.

لكنّ مؤشّرات كثيرة تدلّ على العكس: فقد انخفضت وتائر التصدير عام 2009 (-25% في تونس، و-15% في مصر) [1]؛ وتقلّصت كذلك عائدات السياحة وقناة السويس والاستثمارات الخارجيّة المباشرة. إلاّ أنّ الأهمّ بالنسبة للدول التي تشهد "التسونامي الشبابي" [2]؛ كان انخفاض تحويلات المغتربين التي تلعب واقعيّاً دور "شبكة الحماية الاجتماعيّة" الأساسيّة للأكثر فقراً وتؤثّر مباشرةً على قدرتهم على الاستهلاك. الصدمة الاقتصاديّة كانت إذاً حقيقيّة، خاصّة وأنّها جاءت بعد ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائيّة العالميّة (وآثار موجة جفاف في بعض البلدان)، وقضت على التوقّعات بتحسّن الأحوال. هذه الصدمة هزّت إذاً إمكانيّة استمرار نموذج الاقتصاد النيوليبرالي الذي تعمّم في البلدان العربيّة بالإضافة إلى آفّة الاستبداد.

كانت الآثار أيضاً كبيرة على دول الخليج المكشوفة أكثر أمام عالم المال العالميّ. إذ تقلّصت الفوائض المالية، والسيولة النقديّة في القطاع المصرفي، الذي شهد خسارات فعليّة لمحافظ توظيفاته، وخرجت التدفّقات المالية الأجنبيّة التي كانت تعمل على المضاربة في الأسواق [3]. ). بالتالي اضطرّت الدول الخليجيّة إلى التدخّل لإنقاذ مصارفها، في حين انفجرت مشاكل ديون مؤسّسات كبرى، بينها إمارة دبي، والفقاعة العقاريّة التي كان عالم المال المحلّي قائماً عليها. الحلقة الأضعف كانت البحرين، القاعدة المصرفيّة التاريخيّة، التي تناست توصيات المؤسّسات الدوليّة حول "أولويّة خلق فرص عمل لامتصاص القادمين الجدد لسوق العمل، خاصّة أن وتائر النموّ ستكون منخفضة مستقبلاً عن معدّلاتها المعروفة" [4]. إلاّ أنّ مجمل الدول الخليجيّة ستحتاج إلى زمن طويل لاستعادة وتائر نموّ مستدام، خاصّة وأنّ تبعات الأزمة قد أظهرت "مخاطر تنامي الإقراض المصرفي بصورة سريعة ومفرطة (...) والاعتماد الكبير على التمويل من الخارج وتزايد انكشاف أصول العديد من المصارف الخليجيّة على قطاعات العقارات والأوراق المالية، مع اللجوء إلى استخدام الأموال الساخنة وقصيرة الأجل (...) لتمويل المشاريع والقروض طويلة الأجل"؛ بالإضافة إلى عجز الدور الرقابي للنظام المصرفي والماليّ [5]. هنا أيضاً تحطّمت أحلام كثيرة.

تداعت كلّ الحكومات القائمة قبيل انطلاقة "الربيع العربيّ" وخاصّة بعدها، لمحاولة استدراك آثار الأزمة على الطبقات الشعبيّة الأكثر هشاشة. إلاّ أنّه يمكن التساؤل عمّا إذا كانت آليّات التوزيع، أو بالأحرى إعادة التوزيع الاجتماعي، فعّالة، وعمّا إذا معظم المال لا يضيع قبل أن يصل إلى المعنيين به.

ثمّ جاء الربيع ومعه إشكاليّاته. وترافق مع انفجار مرحلة ثانية من الأزمة العالميّة، تخصّ الديون السياديّة (من اليونان إلى بقيّة الدول الصناعيّة). تونس ومصر تعانيان منذ أكثر من سنة من اضطرابات التحوّلات السياسيّة، في ظلّ انعدام استقرار داخليّ وتباطؤ اقتصاديّ. لم تأتِ مساعدات حقيقيّة، حتّى لدعم استحقاقات الديون الخارجيّة، لا من دول مجموعة العشرين ولا من دول الخليج. بل أضحى كلّ استحقاق يشكّل ورقة ضغط يستخدمها الخارج عليهما سياسيّاً. فما بالك باليمن. أمّا ليبيا ذات الفوائض الكبيرة، فقد وعدت بأنّها... ستدفع ثمن الحرب لإزالة الاستبداد عنها، عقوداً ونفطاً.

وفي خضمّ الثورات، حجزت دولٌ على أموال (وأملاك) سياديّة وأخرى خاصّة بالحكّام الذين سقطوا أو ينتظرون دورهم للسقوط، باسم الدفاع عن الديموقراطيّة. إلاّ أنّه سيكون من الصعب على الديموقراطيّات الجديدة استرجاع هذه الأموال، خاصّة وأنّ لا أحد يستعجل للإفصاح عمّا وقع عليه الحجز وأين؟ بل هناك بعضٌ أبناء وأقرباء الحكّام المستبدّين السابقين يجولون بأموالهم هنا وهناك. بانتظار أن تنسى الشعوب.

وفي هذا الخضمّ أيضاً، يتناسى بعض أبطال التغيير "العدالة الاجتماعيّة" كهدف رئيس للربيع والثورة، لا يمكن لا للحريّة ولا للكرامة أن تستقيما دونه. فما معنى الديموقراطيّة إذا لم يكن هناك ضبط للمال السياسي، وهو أكثر ما يتدفّق اليوم على البلدان المنتفضة، في أقنية تذهب لخلق استزلامات جديدة لهذا التيّار أو ذاك. في الحقيقة، لا ديموقراطيّة دون هذا الضبط، ودون شفافيّة كاملة عن المصادر وسبل الإنفاق، قبل سقوط الأنظمة، وبعده وعلى المدى الطويل. لا ديموقراطيّة، بل استبدال لاستبداد القوّة الصرفة باستبداد قوّة المال، وهيمنة السلطة المحليّة بهيمنة قوى خارجيّة ودول وشركات.

تقوم إنّ نضالات كثيرة تصاعدت في أوروبا والولايات المتحدة بوحي من "الربيع العربي"، لمحاسبة عالم المال وسياسييه على جنونهم، وللبحث عن نموذج اقتصادي جديد. ومن الغريب، أنّه قليلاً ما نشاهد في بلدان الربيع من يريد أن يبحث عن مثل هذا النموذج، والقطيعة مع الماضي، ليس فقط لناحية الاستبداد بل أيضاً لناحية الاقتصاد والمجتمع، على غرار ما حدث ويستمرّ في أمريكا اللاتينيّة. إلاّ إذا كان هدف المال السياسي، ووسائل الإعلام التابعة له، هو بالضبط منع هذه القطيعة والترويج لاستبداد المال.

ٍ جميع الحقوق محفوظة لموقع syriandays - syrianews - سيريانديز- أخبار سورية © 2024