الأحد 2014-03-16 09:13:58 صحافة وإعلام
من اقتصاد السوق الليبرالي.. إلى اقتصاد اليوم التالي

د. عدنان سليمان

أولاً: العودة إلى أصل المعرفة (الفكر الاقتصادي وما نجهله): كما أن العمى الاقتصادي مرض قد يصبح مزمناً، فإن الجهل المعرفي بالفكر الاقتصادي قد يتحول إلى عادة أو تقليد مجتمعي

فيصبح الانقلاب عليه والخروج منه، عبئا تاريخيا ووجوديا، إذ يبدو أن معرفتنا بالأسواق واقتصاد الأسواق وفلسفة الأسواق وهوية الاقتصاد، ليست امرا مسلما به، أو معرفة وبداهة لدى أولئك الذين يفترض بهم معرفتها، إذ تشكل هذه المعرفة مسوغ شغلهم وقراراتهم وخططهم. ولأن ذلك يشكل جزءا من الالتباس أو التعمية المقصودة، بل حتى المكابرة على المعرفة ذاتها، لا تلبث الأزمة التي تحيط بنا، أن نقدم لها، من وحي ذلك الجهل، وقودها لتشتعل كل يوم. لنعود إذا إلى أصل الحكاية: ذلك أن الأسواق وجدت تاريخيا قبل الرأسمالية، وليست كل سوق أو اقتصاد سوقاً يجب أن تفضي مباشرة إلى رأسمالية، فالتبادل والأسعار والبضائع والمنتجون والبائعون والمشترون والمستهلكون يشكلون وينتجون الأسواق، وتغيرات الأسعار والعرض والطلب والمنافسة والاحتكار تمهد لتطور الأسواق، لكن وجود الرأسمال لا يعني بالضرورة وجود الرأسمالية، وليس قبل الثورة الصناعية يمكن الحديث عن الرأسمالية بالمعنى الإنتاجي، أن توسع الرأسمال في الإنتاج المتجدد ووجود الرأسمالي ينتجان حينها الرأسمالية، لأن وجود الرأسمالي وحده لا يكفي، فالتجارة والتصدير والأسواق الخارجية والاستثمار في الإنتاج هي ضرورة ذلك، ولأن الرأسمالية واقتصاد السوق يحتاجان بعضهما ليتطورا ويشتغلا عملياً، فإن الرأسمالية هي محرك التقدم الاقتصادي، ولأن اقتصاد السوق قد ينتفخ بسرعة ويتطور على حساب الاقتصاد ذاته، فإن الرأسمالية دائماً رابحة (فرنان بروديل، 56)، فالرأسمالية لا تستمر دون تواطؤ المجتمع الفعلي معها، وتطويعه لخدمتها، فلا تسيطر الرأسمالية إلا في حال تماثلها مع الدولة كنظام سياسي واقتصادي، فتغدو هي الدولة.
لكن الاقتصاد لجهة اشتغاله وعملانيته، ليس مستقلا بذاته، كما يجب أن يكون في النظرية الاقتصادية، لأنه في الحقيقة تابع للسياسة والدين والعلاقات الاجتماعية (بولاني، 36)، الأمر الذي يؤسس لتلك العلاقة بين الاقتصاد والمجتمع، وفي أن أحدها يسخر لخدمة الآخر، أن الاقتصاديين الكلاسيك من «مالتوس إلى سميث إلى ريكاردو» وفكرتهم عن الأسواق القائمة على التنظيم الذاتي، تطلبت من الأسواق إخضاع المجتمع لمنطقها، وهنا تكمن الخطورة على النظام الاجتماعي برمته، فالأحرى أن تطوّع السوق لخدمة المجتمع، لا أن تكون العلاقات الاجتماعية هي المسخّرة في النظام لاقتصاد السوق، هنا يأتي بولاني منتقدا: أن طروحاتنا لفكرة السوق ذات التنظيم الذاتي تنطوي على عالم طوباوي مطلق، مثل هذه المؤسّسة لا يمكن أن توجد مهما طال الزمن، من دون أن تقضي على جوهر المجتمع الإنساني الطبيعي، وبذلك ستفنى طبيعة الإنسان المادية ويصبح محيطه خرابا يبابا «(بولاني 37-38).
من هنا يجادل الاقتصادي العالمي «جوزيف شومبيتر» أولئك الاقتصاديين الليبراليين، المسكونين بهوس استقلالية الأسواق، بأن الرأسمالية عاجزة عن البقاء، بحكم تطورها اللا متكافئ وتناقضاتها الذاتية (للمزيد حول ذلك في الفصول 11 الى 15 من كتابه الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية)، على أن الأمل ببدائل أكثر ديمقراطية، يظل تاريخيا قائما، ثم يشرح إمكانية نجاح الاشتراكية في المدى التاريخي (الفصلان 15و16).
ان ازمة الكساد الكبير التي شهدها الاقتصاد الرأسمالي في مطلع الثلاثينيات، جعلت الاقتصاديون الكلاسيك يدركون ضرورة تطوير النظرية الليبرالية، نظرية «دعه يعمل، دعه يمر»؛ إذ ثبت عملياً، أن السوق الحرة عاجزة بمفردها عن تحقيق الأهداف المرجوة في التوازن الذاتي، وهي بحاجة إلى ضوابط وقواعد واضحة، يمكن لقوى المنافسة الخلاقة أن تعمل في إطارها.
وكان الاقتصادي الألماني «روستوف» هو أول من استخدم مصطلح «نيوليبرالي» إذ دعا إلى انتهاج طريق ثالث، بين الرأسمالية والشيوعية، يجمع بين: سياسة حرية السوق المطلقة، وسياسة التدخل الحكومي، ذلك أن الليبرالية الجديدة، التي كان يدعو إليها، تطالب بضرورة وجود دولة قوية، دولة فوق الاقتصاد وفوق المصالح الفردية. وقد تشكلت أفكار النيوليبرالية كمنظومة فكرية لمدرسة اقتصادية مستقلة بعد عام 1945، تحت تأثير الحرب الباردة، التي تأسست بين معسكرين: الغربي والشرقي، وتجلت على المستوى الإيديولوجي كصراع أو مجابهة بين اقتصادات السوق الغربية من جهة، واقتصاد التخطيط المركزي الموجه من جهة أخرى، والذي كان سائداً في الاتحاد السوفييتي السابق، وعدد من الدول الأخرى التي كانت تدور في فلكه في أوروبا الشرقية. فبعد الحرب العالمية الثانية، عاد الاقتصادي النمساوي «فريدريك هايك» لجمع شمل الاقتصاديين الليبراليين في «مونت بيليرين» في سويسرا، لمتابعة النقاش حول السبل الرامية إلى تطوير الاقتصاد الرأسمالي ومواجهة أزماته.

ثانياً: الهوية الاقتصادية الضائعة
(اقتصادان ونائبان: صراع الإيديولوجيا)
كما في الاحجيات المتعاقبة، أو مقامات الردح الاقتصادي، ما الذي يُحتكم إليه هنا، حين يحتدم صراع المصالح والمدارس والإيديولوجيا والنفوذ ومعالم الطريق، وسط هذا الضباب المعرفي، فلا يعدو الاختلاف حينها مفارقا نظريا وحسب، بل يأخذ معه تبعاته وارتداداته على الارض، وفي الواقع المادي والمعيوش، في الاقتصاد والمجتمع، في الأسعار والقيم ومستوى المعيشة والكرامة والخبز، فلا يعود الخروج عن المنطق الاقتصادي، أو فقدان بوصلة الرؤية، مجرد اختلاف، أو تمايزا، بل كارثة، تبدأ معرفيا، لتطول اللقمة والقوت اليومي وتقرير المستقبل. وسط هذا التيّه في صحراء اللا فكر، وفقدانه وغموضه وانسداده، هاهو الفكر الاقتصادي والهوية الاقتصادية، يحضر اليوم ليرسم أحد تجليات ضياعنا وهزيمتنا حضاريا. فثمّة مسؤول اقتصادي ومشارك أساسي في صنع القرار الاقتصادي يطلّ من على شرفة الأزمة (الأزمة بمعنى الحدث التاريخي 2011، وتجلياتها الاقتصادية الأشدّ وضوحا)، ليرى أننا على موعد مع الخلاص، مع «الاقتصاد الإنساني»، نهج جديد لاقتصاد جديد في سورية أطلق عليه «اقتصاد تحسين مستوى معيشة المواطن». هكذا رمى اكتشافه ومشى، بعد أن شغل إعلام الخطط والأسعار وضبط الأسواق وحماية المواطن، دون أن يتوقف الكثيرون عند ذلك، وإذا ما كان ما يعنيه، استكمالا للانقلاب الذي حصل سابقا على اقتصاد السوق الاجتماعي، حيث اعاد تأكيد غيره.. الليبرالي (منذ عام 2005 وترسيخ السياسات الليبرالية)، فأعلن أن «اقتصاد السوق الاجتماعي» انتهى بانتهاء الشخصيات التي روجت له في بلدان معينة من العالم!. ياللمفارقة التاريخية، الم يعاصر اقتصاد السوق الاجتماعي نهوض أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية ليصل بها إلى دولة الرفاه، وطيلة أكثر من أربعبن عاماً وحتى نهاية الثمانينيات، ظلت الديمقراطيات الاجتماعية والعدالة الاجتماعية وتوافق الأسواق، هي التي أوصلت أوروبا والدول الاسكندينافية إلى ذلك المستوى الاقتصادي والاجتماعي الفريد تاريخيا.
والذي لم نكن لنعرفه، أن وزارة للاقتصاد معنية أولا برسم السياسة الاقتصادية ومرتكزاتها المالية والنقدية، في سياق اقتصادي تنموي محدد، يضيف مسؤولوها من الصف الأول: أن تغيير أو تحديد هوية الاقتصاد السوري ليس من صلاحية وزارة الاقتصاد، وإنما هي عملية تشاركية. الحكومة في المرحلة القادمة ستركز على مبدأ «اقتصاد السوق ببعد إنساني» وليس اجتماعياً، للارتقاء إلى مرحلة اقتصادية أعلى (الثورة آب 2011). يا للمعرفة التائهة: ثمة اقتصاد مجرد، ليس رأسماليا، ليس اجتماعيا، ليس اشتراكيا، لكنه ذو وجه إنساني، يضمنا جميعاً، خبزنا رفاهنا وجودنا الآدمي، كل شيء مجانا، ليس اجتماعياً لكنه إنساني، إنسان «روبنسون كروزو»، في جزيرته المعزولة، غير الاجتماعي، لكنه يستطيع الارتقاء بنا إلى أعلى.. أعلى.
للتذكير فقط (ومن باب الركون إلى المحاججة المعرفية فقط)، فان اقتصاد السوق، هو اقتصاد تبادلي للقيم والأسعار، ويخلو من المسوغات أو الدعائم الأخلاقية أو المعيارية، فثمة حياد أخلاقي هنا، هو الحياد القيمي (هايك) ليتطابق مع مفهوم السوق الطبيعي التلقائي، دون تدخل من المجتمع، قرارات الأفراد فيه فردية عقلانية أو رشيدة فقط، لأنه، وما أن تحقق السوق الرفاهية والحياة الكريمة للأفراد، حتى تشتغل بأدوات التدخل والتخطيط، فلا تغدو حينها اقتصاد سوق لوحده بل اجتماعي أو ديمقراطي، وحين تشتغل السوق بالكفاءة والفعالية لتعبئة الموارد، لا تراعي تفضيلات الأفراد وأخلاقياتهم بل الربح، من هنا جاءت فكرة اليد الخفية لنظام تلقائي للسوق، ذاتي التسيير دون سيطرة المجتمع، فالحتمية اقتصادية هنا وليست مجتمعية، ذلك أن اقتصاد السوق ينكر اشباع الحاجات، بل اتاحة الفرص، الحاجات وليدة فهم مجتمعي اشتراكي، والفرص وليدة حاجة تنافسية للسوق، الحاجات مفهوم اجتماعي لديمقراطية اجتماعية أو اشتراكية أو التخطيط لها، على حين تنكرالسوق على الافراد اختياراتهم، وكما أن للسوق حيادها، لكنها تطلب الأفراد في فردانيتهم الرشيدة أو الفاعلة لتحقيق منافعهم الفردية، وليس المجتمعية، وبعد ذلك، أما أن يكون الاقتصاد انسانيا واجتماعيا وديمقراطيا معا، أو لا يكون، لأنه لا يستطيع أن يكون رأسماليا وانسانيا وكفى.

1- نائب اقتصادي شيوعي:
مبكرا، اكتشف النائب الاقتصادي الثاني (قدري جميل 2012-2013 التيار الشيوعي: النائب الثاني) أن اقتصاد السوق الاجتماعي، الذي أعلنته القيادة الحزبية والسياسية، لم يكن اجتماعيا بالممارسة العملية، والاسباب عديدة واهمها، أن النائب الاقتصادي الأول حينها (عبد اللـه الدردري المحسوب على التيار الليبرالي 2005-2010) لم يؤمن يوماً ما بالاجتماعي، وهو الذي عبر أكثر من مرة، أنه لا شيء اسمه اقتصاد سوق اجتماعي، بدليل أن تاريخ سورية الحديث شهد مع فريقه وحكومته وادارته، انقلابا جذريا على تاريخ سورية الاقتصادي والاجتماعي، مع إطلاق سياسات التحرير الليبرالي وتقليص دور الدولة الاجتماعي، محققا بذلك أولى توصيات الصندوق الدولي، بحزمة الإصلاحات المالية والاقتصادية. فثمة إذا نائب اقتصادي ليبرالي، يمارس سياسات ليبرالية للتحرير والخصخصة والتعويم، تحت مظلة سياسية وحكومية لاقتصاد سوق اجتماعي، اي بهوية اجتماعية، وحين ينجز حزمة إصلاحاته، يطلق قهقهة مبكرة في الأيام الأولى للازمة، ويمضي. نائب اقتصادي ثان، ينتمي للتيار الشيوعي، ويقف على النقيض من سلفه وسياساته وبرامجه، يقول: «إن اقتصاد السوق الاجتماعي الذي اقرته الحكومة السابقة لم يكن اجتماعيا بالمعنى الحقيقي للكلمة، وحتى تاريخه لم يصبح اجتماعيا وبقي اقتصاد سوق.. العدالة الاجتماعية ستكون ابرز ملامح الاقتصاد السوري في المرحلة القادمة عبر إصلاح اقتصادي اجتماعي عميق يحقق طرفي المعادلة نمواً وعدالة اجتماعية.. (الحوار المتمدن 1073- 2005). النائب الاقتصادي الذي شغل الإعلام السياسي والاجتماعي، بمفردات العدالة الاجتماعية ومصالح الفقراء والانحياز لخياراتهم والانقضاض على الاقتصاد الليبرالي، فالاقتصاد السوري اليوم- على حدّ اكتشافه- هو اقتصاد تسوده علاقات الإنتاج الرأسمالية التي يغلب عليها الطابع الطفيلي، فالسؤال الأساسي الذي يحدد طبيعة هذا الاقتصاد هو ليس اين تنتج الثروة فيه بل كيف توزع بين الطبقات والشرائح الاجتماعية؟ إنه اقتصاد السوق المشوه (الحوار المتمدن 1239- 2005). وحين أصبح الاقتصادي الماركسي جزء من فريق حكومي مدرك لجدية الأزمة الاقتصادية واستمرار تداعيات تحرير الاقتصاد والأسعار والتجارة، رمى هو الآخر عدة شغله الإيديولوجي في وجه مثقفينا ومنظرينا وإعلامنا، مستثمرا وجع فقرائه وجمهوره ومشروعه معلنا: اليوم لا فريق اقتصادياً، ولا رؤية منهجية، فالحكومة لديها أهداف مستعجلة، ولهذا فمهمتنا هي «التسكيج».. (صحيفة تشرين 14-5 -2013).
وحين أصبح ممكنا الوقوف على قمة «مونت بيليران» (المدينة السويسرية التي اجتمع فيها ليبراليون بزعامة فريدريك هايك لتأسيس جمعية بليران الليبرالية)، والإطاحة بالمكتسبات الليبرالية والقطع معها تاريخيا، وجدت الحكومة نفسها، انها ليست حكومة أزمة، لأنها لا تملك الفريق (النائب الشيوعي الذي كان الاهم في فريقها)، وبمنهج الإطفائي راحت تجرب، كيف ترتق الثقوب في عباءة اقتصاد مخترق وممزق بسياسات لم تعلن حتى الانقلاب عليها، بل استمرت تلهث تجريبيا في تسويغ انزياحها لمصلحة النخبة الليبرالية والاحتكارية، هذه النخبة، التي ما أن نمي إليها، أن رياحا تهب على المنطقة، حتى حملت جعبتها المالية وما نهبته من البنوك السورية، لتحطّ في بنوك ومقاهي بيروت ودبي وعمان والقاهرة، دون أن تنسى وجع دمارنا وخرابنا، فلا تزال تبحث عن مفردات عودتها الظافرة مع موكب «إعادة الإعمار» وطلائع «اقتصاد اليوم الآخر».
2- نائب اقتصادي ليبرالي:
النائب الاقتصادي الأول، وعد السوريين مؤخراً (انتبهوا كأنه لا يزال يعمل اليوم في قلب الأزمة، أو كأن الأزمة وجدت لتعيد صياغة وإنتاج مشروعه الذي لم يكتمل)، أن الاقتصاد القادم ليس رأسماليا كما أنه ليس اشتراكيا (يستمر الهروب من الهوية والمصطلح)، وهو كان حريصا على عدم تحديد أو تسمية اقتصادنا مسوغاً: «أن هذه الظروف الخاصة تبعدنا عن تسمية اقتصادنا (متحدثاً باسم الـ«نحن».. السوريين).. فالعقد الاجتماعي الجديد سيتعرض لكل الاقتصاد، والوثائق التي قدمتها في المرحلة السابقة، لم تركز وتسمي اقتصاد السوق الاجتماعي، ما قدمته هو اقتصاد له مواصفات محددة دون ذكر التسمية، المهم هو التركيز على المضمون وليس على التسمية، فما نسعى إليه (كأنما هو جزء من فريق يعمل ويفكر عنا جميعا) هو اقتصاد تنافسي يحقق قيمة مضافة. وهذا ليس له علاقة بالاشتراكية أو الاقتصاد الرأسمالي.. (مشروع الحوار السوري: حوار مع النائب الاقتصادي السابق الدردري شباط 2013). هذا غيض من فيض ليبرالي لاقتصاد بلا ملامح أو هوية، يسهل الاشتغال تحت سمائه، بكل أدوات الفوضى والخراب. وعند خلاصات المقارعات الإيديولوجية وتناحر ليبرالي وشيوعي لصنع القرار الاقتصادي وبعد عشر سنوات، ثمة اقتصادان وإدارتان وفريقان وإيديولوجيتان: انتظر السوريون سنواتهما عجافا، وثمارهما خرابا يبابا (على حدّ قول كارل بولاني في اقتصاد السوق المنتظر).

3- فضيلة الجهل الاقتصادي:
وحين اتيحت الفرصة للإمساك بلحظة تاريخية فارقة، يعاد فيها تأريخ وصياغة «دستور جديد» جاءت هوية الاقتصادي السوري – كما هي دائماً – اللاهوية الاقتصادية (والمفارقة أن النائب الاقتصادي الشيوعي كان عضواً أساسيا في لجنة صياغة الدستور): مفردات عائمة تصلح لكل الازمنة، حتى ما قبل اقتصاد السوق: تنمية وخطط ودخل وسياسات وعدالة ونمو ونشاط اقتصادي، ليظل الاقتصاد كسيحا، يسبح في فضاء اللاتحديد، ثم اللامسؤولية، منفلتا من الرؤى أو المعايير أو البرامج، فلا يمكنك حينها القياس على الاداء، لانك لا تعرف فلسفة الاقتصاد الذي يجري في إطاره ذلك النشاط الاقتصادي، من ثم لا يجد صاحب القرار الاقتصادي جهالة فيما لا يعرفه، ليلزمه بشيء، هل هو اقتصاد سوق، رأسمالي أم اجتماعي أم ديمقراطي أم اشتراكي أم حر أم ليبرالي؟ كل ذلك يصلح، حين تريد الاحتماء من حالة تفلّت الأسواق أو فوضاها أو تشوهها أو احتكارها أو حتى غيابها.
وبعد كل هذا، لماذا نتمسك بخيار الهوية الاقتصادية، لأن أهمية وضرورة المنهج الاقتصادي الفكري، تأتي من كونه هو الذي يحدد هوية الاقتصاد، ثم النموذج التنموي، الذي يشكل اطارا للتنمية الوطنية، فثمة فرق كبير بين نموذج تنموي وطني شامل، يعتمد الاستقلال الذاتي والقطع مع التبعية والمشروع الليبرالي، قاطرته النهوض بالإنتاج المادي الزراعي والصناعي، الذي يحتاج حينها إلى هوية وطنية للاقتصاد، تتمثل في اقتصاد السوق الاجتماعي، أو الاقتصاد الموجه تنمويا. وبين نموذج آخر، يقوم على الاقتصاد الريعي والخدمي، من ثم يحتاج إلى السوق الحرة واقتصاد السوق الرأسمالي، ونماذج المؤسسات الدولية في الحكم الرشيد، وتقليص حجم الدولة، والتركيز على الخصخصة وحرية التجارة والأسواق والأسعار وراس المال، اقتصاد كهذا، يحتاج إلى هوية ليبرالية للاقتصاد، ثم لاقتصاد السوق الحرة. وحين تكون المجاهرة بذلك، بهذا النهج الاقتصادي الليبرالي صعبة، ولا تمرّ وطنيا (كما هي لحظة إعلان اقتصاد السوق الاجتماعي والتبني عملياً للاقتصاد الليبرالي)، يكون اللجوء إلى التعويم، تعويم كل شيء، نهج الاقتصاد وهويته ونموذجه التنموي، وما يشتغل عملياً، هو تطبيق كل ما يخدم المشروع الليبرالي، لكنه التنصل من ذلك نظريا، من هنا يمكنك معرفة الجواب على التساؤل: لماذا يصرّ صناع الاقتصاد ومسؤولوه على التأكيد: أن الهوية أو النهج الفكري ليس مهما للاقتصاد؟
(هامش: المبادئ الاقتصادية في الدستور الحالي: المادة الثالثة عشرة: 1 – يقوم الاقتصاد الوطني على أساس تنمية النشاط الاقتصادي العام والخاص من خلال الخطط الاقتصادية والاجتماعية الهادفة إلى زيادة الدخل الوطني وتطوير الإنتاج ورفع مستوى معيشة الفرد وتوفير فرص العمل.
2 – تهدف السياسة الاقتصادية للدولة إلى تلبية الحاجات الأساسية للمجتمع والأفراد عبر تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية للوصول إلى التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة.
3 – تكفل الدولة حماية المنتجين والمستهلكين وترعى التجارة والاستثمار وتمنع الاحتكار في مختلف المجالات الاقتصادية وتعمل على تطوير الطاقات البشرية وتحمي قوة العمل، بما يخدم الاقتصاد الوطني).

ٍ جميع الحقوق محفوظة لموقع syriandays - syrianews - سيريانديز- أخبار سورية © 2024