عصام الصافتلي

شدة بياض شعره ... لفتت نظري ... وجعلتني أتوقف قربه .... نظرت جيداً حوله فلم أجد له صاحب أو صديق أو رفيق .. كان صغيراً جداً و نظيف  ... كان مبللاً بالماء فالمطر قبل قليل كان غزيراً جداً والطقس بارد ...

قلت له : لا بد أنك تعاني من الوحدة التي أعانيها .. تعال معي ، لنكن أصدقاء ، رمقني بنظرة لم أجد لها تفسيراً في كل قواميسي .. لكنه وبعد جدل طويل قبل دعوتي ووافق على فكرة  السكن معي .. كان ينظر إليّ بازدراء وتكبّر .. حركاته كانت تدل على أنه من سلالة عريقة ضاربة الجذور وموغلة في القدم ... فأبناء الأسر العريقة هم دائماً هكذا يحافظون على الأصالة والثقل والفخار... كانت نظراته أحياناً تتحدث وتقول :  تواضعت جداً عندما وافقت السكن معك لأنني لا أعرف لا  (اصلك ولا فصلك ) 

في المساء اشتريت له طوق جلدي  من النوع الممتاز وسلسلة طويلة تتيح له هامش واسع من الحركة ... وقلت له : سأقدم لك بعض قطع العظم المكسوة بقليل من اللحم ...لم يكترث لكلامي وأظهر لي عزة  نفس وعفة يفتقد لها الكثير من بني البشر... رغم إحساسي بجوعه وعطشه ... وظني بأنه سيهاجم الطعام بكل فجع وشراهة .. خذلني ولم يقترب بل نظر إلى الطعام وانصرف إلى اللعب واللهو .. لكنه بعد قليل عاد وبدأ بنقل العظام إلى أكثر من مكان ، كان يحفر في التراب ويدفن القطع .. لم أستطع مشاهدته وهو يأكل .. لا اعلم  متى كان يتناول طعامه ... بعد أيام اضطرتني ظروف العمل للسفر .... فغبت عن صديقي مدة ثلاثة أيام ... عندما رآني أدخل المنزل انطلق باتجاهي بأقصى سرعة يمتلكها .. وأصدر اصواتاً مختلفة عن الأصوات القديمة التي ألفتها منه ، رأيت تغيراً بأسلوب تعامله معي فقلت له : لا بد  أنك جائع يا صديقي وقدمت له الطعام .. قفز فجأة إلى الطعام على غير عادته وبدأ طعامه بنهم وشراهة ... كان يأكل وينظر بعينه إليّ وكأنه يخشى أن أرفع الطعام من أمامه ..  

 هل الجوع قادر على تغيير الطباع إلى هذه الدرجة ، هل الجوع قادر على قتل الكرامة والكبرياء والعزة ..

 كنت ألاحظ بعد عودتي من السفر تغير جديد على سلوكه وطباعه ... وخصوصا بعد سفرتي الأخيرة التي دامت خمسة أيام ..

بعد عودتي انطلق باتجاهي انطلاقة المستغيث الملهوف وبدأ بالزحف على الأرض ، كان يمشي أمامي بضع خطوات ومن ثم يعود لمسح رأسه بأقدامي وبعد ذلك يلتصق بالأرض ..

يقولون أن أهم صفات الكلب الأمانة ...لكن الغريب أنني عندما أردت السفر قلت له أيها الوفي أوصيك بدجاجاتي وهم أمانة في عنقك فهل ستحافظ على الأمانة ؟؟

بعد عودتي اكتشفت النقص الحاصل بعدد الدجاج ويبدو أن صديقي الوفي عندما انفرد بالأمانة ولم يجد الرقيب أو الحسيب فأخذها كلها ،ليته أبقى جزء منها...لكن عند عدم وجود الحسيب والرقيب كانت لديه الجرأة الكافية لخطفها ... لا بل الجرأة الأكبر كانت بأنه لم يخف آثار جريمته بشكل كامل... السؤال الذي حيرني و لم اجد له اجابة هل كان يرتدي ربطة عنقه عندما تخلى عن وفاءه أم لا..؟؟

هل الجوع حقا كافر ؟؟؟ وهل فقط الكافر لا محرمات لديه ويفعل كل ما يحلو له؟؟

 عندما رأيت رأسه يلتصق بالأرض آلمني كثيرا منظره ..

حمانا الله وإيّاكم من ذلّ الجوع بعد الشبع ....