تمثل الصناعات الصغيرة إحدى الركائز الأساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، لما تلعبه من دور مهم في تحقيق المعدلات المطلوبة من التنمية الصناعية وجذب رؤوس الأموال للاستثمار في المشاريع الصغيرة، الأمر الذي يساهم في تنوع القاعدة الإنتاجية ونمو فرص العمل
كما تحقق الترابط والتكامل بين القطاعات الصناعية على اختلاف أنواعها إضافة لدورها المؤثر في استمرار وزيادة الانتاج وتحسين الدخل وتخفيف استيراد السلع والمنتجات المماثلة فيما ينشط قطاع الصادرات، والأهم أن هذه الصناعات تعتمد أساساً على المواد الخام المتوفرة محلياً وعلى الرغم من الاهتمام بهذه الصناعات ودراسة واقعها إلا أن هذه الدراسات طالت جانباً دون آخر وصناعة دون أخرى.
من الخردوات صنعنا المعجزات
ما الصناعات وما معايير اعتمادها؟ ما خصائصها وميزاتها التي تجعلها ركيزة للاقتصاد وما العراقيل التي تعترضها وتحول دون تطورها؟ وماذا عن القرية التراثية المقرر إقامتها بدمشق؟ وما دور جمعية حماية التراث الوطني لضمان استمرار هذه الحرف التي تشهد انقراضاً وما الحلول الكفيلة برفع سوية العمل الحرفي وإمكانية تطبيقها على أرض الواقع؟!
يشير مروان دباس رئيس اتحاد حرفيي دمشق إلى أن الحرف والمهن التي تشكل الصناعات الصغيرة انتشرت بكثرة في دمشق وريفها وتنوعت حتى شملت جميع الأنواع الاسمنتية والخشبية والمعدنية والكهربائية والميكانيكية وغيرها ويختلف حجم كل منشأة حسب نوع المهنة إلا أن أكثر المعايير المستخدمة في تصنيف الصناعات الصغيرة هي المعايير الكمية من حيث الأصول الثابتة والأيدي العاملة والمبيعات ورأس المال، إضافة لمعايير أخرى يمكن اعتمادها كحجم الانتاج والتقنية المستخدمة وكمية الطاقة المحركة أو حجم المبيعات ولكن مجمل الصناعات التي يمارسها الحرفيون تعتمد بموادها الأولية على الموارد المحلية وفي بعض الأحيان على الخرداوات لتصل براعة الحرفيين حسب تعبيره إلى أن يصنعوا بعض آلات الإنتاج التي لا تقل جودة عن تلك التي نستوردها من مخلفات الآلات المهترئة والبقايا المعدنية.
جذب رؤوس الأموال
تتميز هذه الصناعات بخصائص عدة تعطيها القدرة على البقاء والاستمرار ومواجهة هيمنة الآلات والصناعات الكبيرة أهمها أنها لا تتطلب مالاً كبيراً أو إجراءات مطولة لإنشائها ما يسهل عملية الاستثمار بمثل هذه المشروعات التي تتميز بقلة مخاطرها لقدرتها على المرونة بتغيير منتجاتها حسب ذوق المستهلك ما يجعلها تتجاوب مع حاجات السوق إضافة لسهولة التشغيل واتخاذ القرار ومرونته حيث يكون المالك هو المدير وآمر الصرف ما ينشط دورة الانتاج وتسريعه بعيداً عن الروتين إضافة لتواجد هذه المنشآت ضمن تجمعات محصورة ما يكسبها شهرة سريعة فتعمل على تلبية الطلب حسب الظروف و«الموديلات» السائدة بأرخص الأسعار نظراً لقلة الانتاج ونفقات التسويق ما يؤدي لزيادة بدورات البيع فينعكس على زيادة حجم الاستثمار وارتفاع معدلات النمو الاقتصادي، كما تتميز بالعمالة الكثيفة والتكنولوجيا البسيطة لذلك نجد الحرفي يعمل عملاً شاقاً وطويلاً حتى يتقاضى أجره ومثل هذه الأعمال كثيرة حسب قول الدباس، أي بمعنى إن الحرف تؤمن الكثير من فرص العمل لمن يريد إلا أن المواطن في أيامنا هذه لا يريد العمل بتعب فيهرع للوظيفة لأنه يعتقد أن العمل سهل وساعات العمل قليلة والراتب مغرِ، ومع ذلك وبمجرد أن يتسلم المواطن وظيفته يبدأ بالنواح «على الراتب والدوام والإجازة والتنقلات وغيرها» فيكون عالة على الدولة، فيما الحرفي منتج ومبدع إن صح التعبير، فلطالما طلبت دول خارجية حرفيين سوريين بمختلف المهن لتنفيذ أعمال في منشآتها وعلى أراضيها وكثيراً ما نفذ حرفيون مثل هذه الأعمال بناء على طلب الدول ذاتها التي نسبت فيما بعد هذه الأعمال لها ولشركاتها المهتمة بمثل هذه الحرف ومع ذلك يعاني الحرفي ما يعاني.
الزجاج اليدوي يستغيث
يقول مصطفى الحلاق صاحب معمل يدوي للزجاج: إن الواقع الراهن سيدفع بنا كأصحاب منشآت إلى الإفلاس بسبب التناسب العكسي بين تكلفة الانتاج الفعلية وسعر وطريقة بيع المنتج التي اقتصرت فيما مضى على الوفود السياحية التي افتقدناها تماماً ليبقى تاجر «الانتيكا» المتحكم الوحيد بمصيرنا، إذ إننا نضطر للبيع في معظم الأحيان لنتمكن من إعالة أنفسنا بعد أن توقف المعمل كلياً منذ مدة طويلة وهو الذي كان يعيل ما يقارب سبع عائلات، وسبب الإغلاق أننا بحاجة يومية لمادة المازوت لتشغيل الأفران وهذا غير متوفر إلا بسعر السوق السوداء «أكثر من مئة ليرة للتر» ما يعني الخسارة المؤكدة وفي هذا تكمن معاناتنا كأصحاب معامل مهنية تؤمن فرص العمل وتدعم الاقتصاد الوطني.. ومن العدل أن يتم دعمنا بالمواد الأساسية التي نستخدمها خلال عملية الإنتاج بالأسعار المعمول بها رسمياً بغية الابقاء على المعمل واستمرارية إنتاجه.
والتحف التراثية تطالب بحقها
أما كيفورك غاربيان وأحمد راتب الضعضي أعمال تراثية فيقولان: نفذنا أعمالاً عملاقة في بلاد مختلفة بناء على طلبها كما شاركنا في بعض المعارض الخارجية والتي كان آخرها في إيران وحصلنا على المركز الأول بجدارة، كذلك قررت إحدى الدول المجاورة إقامة قرية تراثية فاستعانت بحرفيينا على اختلاف حرفهم لينفذوا أعمال القرية ويوم عادوا ادعت تلك الدولة بل وضعت على المصنوعات اسم شركات لها، إنما نذكر ذلك لنبين مدى الاهتمام الخارجي بحرفيينا وحرفنا التي تعاني في بلدنا الكثير وأولها أنه ما من أحد ينظر بعين الاعتبار للحرفي أو مصنوعاته، وإذ ما جاءت دعوة للمشاركة بإحدى المهرجانات الثقافية التي تضم فقرات أو مسابقات لأعمالنا التراثية أو دعوة للمشاركة بإحدى المعارض الخارجية لها يتم أخذ التاجر الذي يبيع ويشتري دون أن يعرف أي شيء عن طريقة صناعتها، لذلك نؤكد على حقنا في تمثيل هذه الصناعات بالمهرجانات والمسابقات والمعارض التي غالباً ما تحتاج لشروحات عن المعروضات يفتقد إليها من رافقها بطرائق نعرفها جميعاً.
المهن وخط الزوال
بدوره فؤاد عربش رئيس جمعية الصناعات الشعبية قال: من ميزات مهنتنا الخبرة بالوراثة لذلك نجدها اليوم قلة قليلة لأسباب منها وفاة العديد من أرباب هذه المهن وعدم رغبة ورثتهم بالاستمرار بالعمل فيها فأغلقوها أو باعوها لتتحول إلى محلات «أنتيكا» أو مطاعم سياحية لاسيما تلك التي كانت في أحياء دمشق القديمة، أما من أصرّ منهم على المتابعة في مهنته فطاله المخطط التنظيمي العمراني ليهاجر بمهنته تحت ضغط شكاوى الجيران إلى الأطراف ونظراً لإمكانياته المادية المحدودة لجأ للمناطق العشوائية التي طالها التنظيم الذي تسبب بدوره في هدم المحلات ليبقى دون بديل كما حصل في معامل وورشات باب شرقي الذي طالها الهدم ليتوقف معظم أصحاب هذه المهن نهائياً لعدم إمكانيتهم على تأمين البديل فيما هاجر البعض الآخر بعد أن كانوا أرباب عمل وأصحاب منشآت وأما الناجون فقلة جداً وراجعوا الجهات المعنية مراراً وتكراراً ليظفروا أخيراً بموافقة محافظ دمشق المتضمنة إقامة القرية التراثية حيث تم تخصيص الحرفيين الذين لايتجاوزون أصابع اليد بقطعة أرض في تنظيم باب شرقي مع إبقائهم مؤقتاً في المعامل الحالية ريثما تتم إشادة القرية السياحية بالكتاب رقم 4120 تاريخ 19 كانون الأول الفائت.
مشكلات ومصاعب
القرية التراثية -على أهميتها- لا تحل كامل المشكلات التي تعترض الحرفيين على اختلاف وتنوع مهنهم، حيث تطرق العربش لعرضها -منها- وضع التسهيلات التشجيعية مثل مصاعب التمويل إذ يجد أصحاب المصانع الصغيرة صعوبة بالحصول على قروض البنوك وعدم التمكن من الاستفادة من حوافز الاستثمار مثل الاعتمادات الجمركية والأسعار المدعومة للطاقة أو إمكانية الحصول على الأراضي بأسعار رمزية، أما وإن وجدت بعض البنوك التي تقدم بعض التسهيلات فتكون بنوكاً تجارية همها الربح دون النظر عن العائد للمقترض كذلك اشتراط تنفيذ 50 بالمئة قبل الحصول على قرض التحويل يعتبر أمراً صعباً على كثير من منشآت الصناعة الصغيرة.
ومن مشكلات الحرفيين أيضاً صغر حجم السوق وتغيير الأسعار المفاجئ ما يولد عدم التنبؤ الفعال بحجم الطلب وتكاليفه إضافة لعدم توفر اليد العاملة المدربة الخبيرة ذات المهارات ما يؤدي لخفض الإنتاج وجودته الأمر الذي ينعكس على عمليات البيع والتصدير خاصة مع انفتاح السوق المحلية على الاستيراد وقصور الحماية الجمركية ما من شأنه تصعيب إمكانيات المنافسة وهذا سببه عدم توافر المعلومات الكافية من هذه الصناعات ومتطلباتها وأسعار موادها الخام بالأسواق العالمية ما يجعل من هذه المعامل معزولة كلياً عن محيطها الصناعي والتسويقي ما يقودنا إلى نقص في البحوث والتطوير أدى إلى عدم القدرة على تغيير المنتج أو تحسينه لغياب التنسيق بين الاتحاد والوزارات والجهات المتخصصة بنوع هذه الصناعات.
25 منطقة حرفية
كما أن هناك إشكالات ترتبط بالموقع الجغرافي حيث شيدت بعض المنشآت في مواقع تقل فيها المقومات الأساسية لقيام مثل هذه الصناعات أو تسويقها، ويجمع الحرفيون على أهمية توجيهات وزارة الصناعة المتضمنة إحداث 25 منطقة صناعية في مختلف المحافظات تخصص للصناعات الصغيرة والحرفية وأخرى للمهن القائمة على النشاط الزراعي وتكون قريبة من أماكن تواجد المحاصيل حيث قالوا: بمثل هذه التوجهات وبدراسة واقع كل مهنة وبأي سوق ترتبط نصل لأفضل الحلول، فكما ستقام منشآت لحرف ومهن في المدن الصناعية أو بجوارها فيجب إقامة القرى التراثية بالقرب من المدن ومناطق السكن بحيث يصلها السياح والزائرون بيسر وسهولة وإقامة مثل هذه التجمعات برأي الحرفيين من شأنه حث المنشآت المخالفة على التحول إلى الاقتصاد النظامي إضافة لتشجيع الابتكار والتطوير عبر المنافسة الإيجابية.
حماية للتراث
بدوره رئيس جمعية حماية التراث خلدون المسوتي قال: يلعب التراث دوراً مهماً في تكريس الحالة الجمالية وجذب السياح ويعكس واقع البلد وعراقة تاريخه لأن التراث هو ثقافة متوارثة عبر الأجيال وله دور مهم في التوازن البيئي إذ يعتمد الحرفي في معظم أعماله التراثية على بقايا البيئة حيث تتم إعادة صهر الزجاج المحطم والحفر على الخشب أو تقطعيه لإعادة استخدامه في الموزاييك وكذلك الحال بالنسبة للنحاسيات والفسيفساء والمنمنمات وغيرها.. أي إن الحرفي يصنع قطعاً فنية تراثية جميلة من لاشيء بعد أن يبذل جهداً كبيراً بتحويل هذه البقايا إلى مواد أولية صالحة للاستعمال وجهد أكبر عند صناعة القطعة وهو بمثل هذا الجهد يستحق أن يتم إعفاؤه من الترخيص الإداري الذي يثقل كاهله من خلال دفع طابع الإدارة المحلية ب 25 ألف ليرة، إضافة لاعطائه الحق بتمثيل حرفته في المهرجانات والمؤتمرات لأنه الأقدر على شرح مفردات صناعتها عوضاً عن الرضوخ للتاجر أو للجهة التي تطلب منه تصنيع هذا المنتج.
ويضيف المسوتي: يشتهر حرفيونا ببراعتهم وجمال منتجاتهم الفنية في معظم الدول حيث نفذوا أعمالاً كثيرة وضعت في القصور والمتاحف وتلقوا على أثرها عروضاً مغرية للعمل، لكننا ولأننا أبناء هذا البلد المعطاء رفضنا كل العروض وإن كانت المعامل الكبيرة قد أغلقت وهرب أصحابها خارج البلاد فإنه كما يقال:«رأس المال جبان» فيما لا يملك الحرفي إلا فنه ومهارته وكرامته التي لا نجدها إلا في سورية، والمال ليس كل شيء في الحياة، ويكفي أن نكرم بكلمة شكر في بلادنا فتساوي كل أموال العالم، وهذا ما حدث فعلاً عندما اكتشفنا أن هناك من يقدرنا ويثمن حرفتنا.
تحفيز في محله
وقال المسوتي يوم التقينا السيد المحافظ وخصنا بقطعة أرض لإقامة القرية التراثية وضع شرطاً يقول: لكم الأرض والقرية التراثية شرط أن تعلّموا الأجيال القادمة فن هذه المهن، فكان هذا تقديرنا الذي ننتظره بأن نجد حرفتنا محط إعجاب الآخرين وتستحق التعلم، فوافقنا على الشرط لنسمي القرية حتى قبل إشادتها«شام الياسمين للتراث الدمشقي والتأهيل المهني».
لتبقى أمنيتنا أن تتم المباشرة بتنفيذ هذه القرية قبل أن نخسر البقية الباقية من صناع تراثنا.
الحلول من السهل الممتنع
وحسب الحرفيين فإن أول الحلول وضع التسهيلات التشجيعية، مثل الإعفاء الجمركي للآلات والإعفاء من الضرائب والرسوم ودفع طابع الترخيص الإداري... وذلك بالتنسيق ما بين الجهات المعنية من جمارك وغرف تجارة وصناعة وبنوك وغيرها، إضافة لتأمين الدعم بالمواد الأساسية التي تتطلبها كل صناعة، تشكيل جهاز مختص لمتابعة الصناعات الحرفية وتقديم الخدمات والاستشارات التسويقية والفنية والتقنية للحرفيين والعمل على إنشاء المراكز التقنية لمتابعة التطورات التكنولوجية في العالم والتنسيق ما بين غرف التجارة والصناعة لتأمين ما تحتاجه هذه الصناعات من دعم ومؤازرة أسوة بباقي المنشآت الصناعية وتنظيم معارض لها بغرض عرض منتجاتها وترويجها الأمر الذي يساعد على تطوير أدائها وتوسيع أعمالها وهو أمر مهم ينسجم مع استراتيجية التنمية الاقتصادية التي ترتكز على التصنيع وتعزيز إسهام القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي، لأنه من الطبيعي أن عدم تنمية ودعم المصانع الصغيرة التي تعد رافداً للمصانع الكبيرة سيشكل عبئاً على تطوير القواعد الصناعية أو على الأقل على معدلات تطور هذه القواعد التي يتأسس عليها ازدهار البنى والهياكل الصناعية المتعددة.