د. تركي صقر
حتى الآن لم تصل العلاقات الروسية- الغربية إلى نقطة اللاعودة غير أن معطيات سلبية تتراكم على طريق هذه العلاقات وتؤشر إلى الاقتراب من القطيعة والافتراق ولعل ما شهدته قمة مجموعة العشرين التي عقدت مؤخراً في مدينة بريزبين الأسترالية من أجواء شديدة التوتر بين الطرفين
بما فيها مغادرة الرئيس فلاديمير بوتين قبل اختتامها توحي بتفاقم الخلافات وتضاؤل فرص التوصل إلى حلول ما يجعلها خلافات مفتوحة ليس نحو حرب باردة جديدة وإنما نحو معركة كسر عظم تقلب المشهد الدولي برمته رأساً على عقب.
في قمة بريزبين استمر التأليب الأمريكي ضد روسيا والرئيس بوتين شخصياً وجرى تحريض معظم دول المجموعة لتوجيه الانتقادات الحادة لما يسمى «الدور الروسي» في الأزمة الأوكرانية، وتناوبت كل من أستراليا وبريطانيا وكندا وفي المقدمة الولايات المتحدة على ذلك ووصف الرئيس باراك أوباما هذا «الدور» بأنه «يشكل تهديدا للعالم» ورفع لهجة التهديد هو ورئيس الوزراء البريطاني في وجه بوتين وحذرا من أن «روسيا ستواجه بمزيد من العزلة»، إذا ما واصلت ما سمياه «تأجيج النزاع في شرق أوكرانيا»، وتابعا: «نحتفظ بالقدرة وتبحث فرقنا باستمرار آليات ممارسة المزيد من الضغوط إذا ما دعت الضرورة».
وفي هذا السياق، تستمر واشنطن في دفع حكومة كييف لإشاعة توتر دائم مع موسكو إلى حد بات معه الرئيس الأوكراني يهدد «بشن حرب شاملة ضد روسيا» كما تستمر في تخريب العلاقات الأوروبية الروسية ومنع أي تفاهم بين الطرفين، ونتيجة ذلك وصلت هذه العلاقات إلى أدنى مستوى لها منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي إذ تم مؤخراً طرد دبلوماسيين روس من كل من بولندا وألمانيا بينما ردت موسكو بالمثل كما تدفع إدارة أوباما دولا أوروبية عديدة للتورط في الأزمة الأوكرانية عبر إرسال الأسلحة والأموال والمرتزقة للقتال ضد شرق أوكرانيا وتعطيل تطبيق الاتفاق بين حكومة كييف وأبناء شرق أوكرانيا بهدف إطالة أمد الصراع هناك وسفك المزيد من الدماء في الخاصرة الروسية تماماً كما في الحالة السورية حيث تستمر واشنطن في صب الزيت على نار الأزمة في سورية لإطالة عمرها وجعلها جرحاً مفتوحاً لا يتوقف عن النزف في خاصرة محور المقاومة.
من نافلة القول أن لأوكرانيا أهمية استراتيجية كبرى لروسيا كقوة عظمى، وعليه فإن روسيا مستعدة لبذل تضحيات وخوض مواجهات من أجل أوكرانيا أقسى من تلك التي خاضتها في جورجيا مع فارق التموضع الروسي ما بين 2008 واليوم.
يرى ديمون ويلسون نائب رئيس مجموعة الأبحاث في مجلس الأطلسي أن السياسة الخارجية الحالية للروس تقوم على استعادة النفوذ والهيبة الروسية في العالم.
وفي رأيه أن بوتين ينتهج هذه الاستراتيجية عبر اختبار نقاط التأثير في الجانب الأميركي، والإدارة الأميركية لا تخفي انزعاجها من الطموحات الجيوسياسية التي عادت موسكو للعمل عليها، وهو موضوع حساس أساساً منذ حرب صيف 2008 في جورجيا، الدولة التي أرادت الخروج من فلك سياسة موسكو.
وها هو بوتين وبعد ثلاث سنوات من التهدئة النسبية مع واشنطن خلال فترة تولي ديمتري ميدفيديف الرئاسة، يضع حداً لهذه السياسة الهادئة بعد عودته إلى الكرملين ولو أدى ذلك إلى حرب باردة جديدة أو ما هو أبعد.
إن ما تدل عليه المؤشرات كلها هو أن الأزمة في أوكرانيا ذاهبة إلى مزيد من التعقيد، والحلول تبدو أكثر تعقيداً، خاصة أن العالم برمته الآن موجود في الملعب الأوكراني، ولا أحد يمكنه أن يدعي استحواذه على الكرة في الساحة الأوكرانية وبتفوق ملحوظ سوى الجانب الروسي .
إن الوقت يعمل لمصلحة روسيا في أوكرانيا لكون المعطيات الجيوسياسية لمصلحتها بدءاً من هيمنة الأرثوذوكسية بنسبة 70% مرورا بالانتشار الواسع للغة والثقافة الروسيتين وصولاً إلى الجغرافيا إذ تحتضن روسيا المنطقة بينما يتعامل معها الاتحاد الأوروبي وأميركا بوساطة دول مهتمة بالحماية والدعم الأطلسيين لنفسها قبل جيرانها.
هذه الوقائع تؤكد عدم رغبة بوتين أو حاجته للتدخل في أوكرانيا وهو يملك من أوراق الضغط عليها ما لا يملكه الآخرون، بدءاً من ورقة الروس الأوكرانيين المتحمسين ومعهم ورقة الغاز الذي يشكل حاجة حيوية لأوكرانيا إضافة إلى المديونية الأوكرانية والمعطيات الجيوسياسية العديدة.
مع ذلك، هناك حالة استعصاء حادة في الوصول إلى حل للأزمة الأوكرانية تقف وراءها واشنطن قد تؤدي إلى نشوب معركة كسر عظم بين أمريكا وروسيا إذ وصلت إلى حد تهديد موسكو بالنووي في حال تمادى الغرب وأمريكا في ابتلاع أوكرانيا وضمها إلى حلف الناتو وكان تحليق القاذفات الروسية العملاقة فوق خليج المكسيك رسالة تحذير شديدة لوقف هذا التمادي واللعب بورقة الأمن القومي الروسي وهذا يقودنا إلى سؤال مهم عن انعكاسات ذلك على ما يجري في سورية واستمرار الولايات المتحدة في عرقلة الحل سعياً إلى إطالة عمر الأزمة.
من هنا نفهم اندفاع موسكو لإحداث اختراق سياسي فيما أطلق عليه الخطة الروسية أو ما سمي في الإعلام «موسكو1». من خلال عقد مؤتمر يصب في إطار عودةٍ روسيةٍ إلى الواجهة بعدما خطفت الولايات المتحدة «بحلفها» الأضواء تحت حجة «محاربة داعش». يخطئ البعض بالقول: «إن التحرك الروسي يحمل في طياته تبايناً مع دمشق وكذلك من يزعم أن روسيا تراجعت عن مواقفها السابقة تجاه سورية، لكن حقيقة الأمر أن سورية لا تمانع في عودة موسكو لتمسك بخيوط الحل، ولاسيما أن البنود الروسية لا تتناقض مع الخطوط الحمر السورية، بل هي تحت السقف الذي تقبل به القيادة السورية في أي حوار، مع ملاحظة أن سورية اليوم تبدو في وضع مريح أكثر وبعدما بات أيضا وهج ما يسمى «الائتلاف» المعارض معدوماً، بعدما باتت القوى التي كان الغرب يصفها «بالمعارضة» مختصرة «بداعش» الذي يعد تنظيماً إرهابيا في نظر الجميع، وان التقدم الميداني المتواصل، يتيح لسورية جمع نقاط قوة أكثر تصرفها فيما بعد، في أي حوار ممكن، وبعد هذا، يصبح الجواب واضحاً، ليس ثمة خلاف روسي- سوري ولا تراجع لمواقف موسكو على الساحة الدولية ولا على الساحة السورية بشكل خاص بذريعة الضغوط الأمريكية عبر الأزمة الأوكرانية مهما جرى تصعيدها.
tu.saqr@gmail.com