دمشق- سيريانديز
القوة الشرائية في سورية تعرضت لعملية فساد منظمة مع سبق الإصرار والترصد، شارك فيها كل من سعى وراء الثراء غير المشروع لتكون النتيجة آلاف الأسر السورية التي طاردتها الحرب والتهجير والإرهاب والعقوبات الاقتصادية تعيش في صراع ومعاناة مع لقمة العيش بل نصف هؤلاء غير آمنين غذائياً، وأكثرية هؤلاء المهجرين فقدوا معيلهم..
في ظل هذه المؤشرات المخيفة، هل من العدل والإنصاف التحدث عن القدرة الشرائية للمواطن أو الموظف الذي أكله الجشعون والفاسدون!؟
يقول الدكتور عقبة الرضا أستاذ الجامعة والخبير الاقتصادي: يتم قياس التطور الاقتصادي لأي بلد بمستوى معيشته ودخله، وهذه المؤشرات لو طبقت على المواطنين بمهنية وحيادية ستكون النتائج أسوأ مما نتحدث عنه، فالواقع الاقتصادي الذي يعيشه المواطن يكشف حالة الصراع شبه اليومية مع شبح الأسعار الذي قصم ظهر المجتمع.
ويلفت الدكتور الرضا إلى أن ضعف القوة الشرائية هو الهاجس الذي يؤرق القطاع الخاص المحلي الذي دائماً يشكو من ضعف القوة الشرائية للمواطن ما يدفعه للبحث عن سلع تناسب مستوى الدخل بغض النظر عن الجوانب الأخرى كالجودة والمواصفات.
ويرى الخبير الاقتصادي أن ضعف الادّخار بالمعنى العام هو مؤشر سلبي يدل على انخفاض مستوى دخل المواطن حيث لا يتبقى لدى المواطن من المال ما يدخره، وهذا يؤدي إلى انخفاض القدرة على تمويل الاستثمارات بشكل عام، أي أن ضعف الادخار ينعكس مباشرةٍ ضعفاً في الاستثمار، لأن الاستثمار في الاقتصاد الوطني يمول أصلاً من تراكم الادخار، وكلما زاد الادخار زادت قدرة الاقتصاد الوطني على الاستثمار بالاعتماد على موارده الذاتية.
والحالة التي يعيشها اقتصادنا هي حالة بين التضخم ونقص السيولة، فالدخل الذي يحصل عليه المواطنون منخفض بالمقارنة مع مستويات الأسعار التي ارتفعت كثيراً.
القوة الشرائية
ويؤكد الدكتور الرضا أن السياسة الأجرية تمثل الركن الأساس لتصحيح العلاقة بين الأجور والأسعار، بدءاً بتصحيح العلاقة بين الأجور ومستوى الأسعار، بمعنى تطابق الحد الأدنى للأجور مع الحد الأدنى لمستوى المعيشة من خلال الاستناد إلى مؤشر الأسعار لتحقيق الربط بين الأجور والأسعار بعد كل ارتفاع في الأسعار، ولاسيما أن كل ارتفاع في الأسعار يعني انخفاضاً في القوة الشرائية، وكل انخفاض في القوة الشرائية يعني انخفاضاً في الطلب، وانخفاض الطلب يعني زيادة في المخزون، وزيادة المخزون تعني الكساد، وهذا كله -حسب الدكتور عقبة الرضا- يؤدي إلى تباطؤ الدورة الإنتاجية، وتالياً فإن من يرفع الأسعار ويربح هو في النهاية من يضرب دورة عملية إعادة الإنتاج من خلال ضرب الإنتاج نفسه وهنا تكمن أهمية وجود مؤشر للأسعار يقيس مقدار الارتفاعات الدورية لها، يضاف إلى ذلك أنه لابد من وجود نظام ضريبي فعال على الأرباح – يسمح بتأمين موارد زيادات الأجور، وعادل يسمح بتطور الإنتاج ولا يسمح بهبوطه.
من جهـــــة أخرى أبدى عبد الوهاب الحكيم (موظف – قطاع عام) استغرابه من الحالة التي وصل إليها الموظفون الحكوميون من معاناة مستمرة مع الأسعار، فكل زيادة يحصل عليها الموظفون في الرواتب يلتهمها التجار من خلال رفع الأسعار. ويضيف : إن ارتفاع الأسعار أفسدت فرحة الموظفين بأي زيادة في الراتب وهو ما يتطلب من الحكومة ضبط الأسواق فليس من المعقول أن ترتفع الأسعار، مع كل زيادة يحصل عليها الموظفون.
مستوى الدخل والأسعار
وبحسب الاقتصادي الدكتور الرضا إن جوهر المشكلة في تدهور الطبقة الوسطى، هو في اتساع حجم الهوة بين الأجور والأسعار، وهذه الهوة ناجمة في الأصل عن تراجع حصة الفرد من الدخل الوطني وانخفاض العدالة في توزيع الدخل الوطني بين الأجور والأرباح، و يمكن رد أساس المشكلة إلى العقوبات الاقتصادية، إضافة الى أسباب أخرى أكثر عمقاً وتكمن في انخفاض وتيرة تطور الدخل الوطني عن النسب المطلوبة الكفيلة بمنع انخفاض حصة الفرد منه.
ويؤكد الدكتور الرضا أن إصلاح الأجور والرواتب أهم بكثير من زيادتها التي تتطلب رسم سياسة جديدة للأجور والرواتب توسع قوس الرواتب بين الحدين الأعلى والأدنى، كما لا ننسى عيوب سياسة الأجور والرواتب في القطاع الخاص.
ويشير إلى أن الموظفين في المستقبل سيرفضون أي زيادات مادامت مرتبطة بارتفاع الأسعار لأنها ستسهم بشكل كبير في ارتفاع معدلات التضخم في البلاد، وهو ما يتطلب من الحكومة أن تعمل على تخفيض أسعار المواد الغذائية لأن الغذاء يستحوذ على أغلبية إنفاق الأسر السورية.
ويضيف: إن الموظف يحاول تقليص نسبة الفاقد من دخله الذي يذهب جزء كبير منه ثمناً لارتفاع الأسعار، بينما الذي لا يتم تعويضه عبر الخدمة ذات الجودة العالية.
ويبين الحكيم أن دخل الموظفين يتآكل بشكل مستمر نهاية كل شهر مع ارتفاع أسعار السلع الغذائية.
القطاع الخاص متضرر
التقارير الصادرة عن غرف التجارة والزراعة تؤكد أن القطاع الخاص هو المتضرر الأول من تراجع القدرة الشرائية للمواطن، لأن هامشه الربحي يتراجع وكذلك يبذل جهوداً كبيرة في توفير السلع والمنتجات للمواطن بما يتفق ومستوى دخله.
ويرى اتحاد غرف الصناعة، عبر رئيسه فارس الشهابي، أن الترفيق أصبح سبباً مباشراً في ارتفاع الأسعار وفي هروب الصناعيين وعرقلة عجلة الإنتاج في وقت من المفترض بدء التعافي والحراك الاقتصادي والإنتاجي، فوجود مجتمع مرتفع الدخل وميسور الحال ستكون له آثار إيجابية على القطاع الخاص الوطني من خلال تنشيط الحركة التجارية والاستثمارية.
ويضيف الدكتور عقبة : قناعتي أنه ليس فقط التدريب والتأهيل، وإنما أي إصلاح اقتصادي لن يعطي ثماره إلا من خلال إصلاح الرواتب والأجور، لأن أهم حافز هو الأجر. فأي إصلاح وسيلته وهدفه الناس، وهؤلاء الناس حتى يكونوا فاعلين مع أي عملية إصلاح يجب أن يكون هناك حافز والحافز الأساسي هو الأجر، لذا برأيي ان إصلاح الرواتب هو قضية مفتاحية في أي عملية إصلاحية.
ويضيف: إننا لا نرتب الأولويات لأنه يجب أن نفكر بالاثنين من دون شك، المشكلة في إصلاح الرواتب أنه تواجهنا دائماً قضية توافر الموارد اللازمة. لكن متى كانت الموارد متاحة علينا أن نعمد إلى إصلاح الرواتب ولو بشكل جزئي. وهذه الأجزاء تتراكم مع الزمن وتؤدي إلى وضع أفضل للرواتب والأجور، وهذا سيساعد عملية الإصلاح.
وعن العلاقة ما بين التدريب والتأهيل يرى الدكتور الرضا أن التدريب والتأهيل والرواتب والأجور مسألتان مترابطتان وليستا متضادتين، ولا يمكن البدء بواحدة وتأجيل الأخرى، لأن الأجور عموماً هي انعكاس للإنتاجية كماً ونوعاً، والتدريب يسهم مباشرة في رفع الإنتاجية من دون زيادة الإنتاجية لا تمكن زيادة الأجور، غير أن سياسة جيدة للأجور تسهم في زيادة الإنتاجية والعكس صحيح.
لا تمكن للدولة أن تهتم بالتدريب وإعادة التدريب من دون أن يكون لديها برنامج متكامل يضمن انعكاس التدريب على زيادة الإنتاجية وتحسين المردود، فالتدريب وحده يسهم في زيادة الإنتاجية شرط اقترانه بتوافر عوامل الإنتاج الأخرى على نحو مناسب من تكنولوجيا ومواد أولية وتنظيم جيد ومناخ إنتاج جيد وقدرة على التسويق وسياسة تشغيل وأجور مناسبة وغيرها، زيادة الأجور في الدولة من دون اقترانها بزيادة الإنتاجية وتحسين مردود العمل الإداري ستكون لها في النهاية منعكسات سلبية لأنها تسهم في اختلال التوازن بين العرض والطلب وتسهم في التضخم، وهذا ما لحظناه في السنتين الأخيرتين.
ويجد الخبير الاقتصادي أن تدريب العاملين في الدولة من دون زيادة أجور المتدربين غير ممكن، لأن المتدرب حينها سيجد فرصاً أكبر بأجور أعلى في القطاع الخاص المحلي أو في الخارج، وهذه مشكلة تواجه الدولة بحدة. وبما أن الدولة بحاجة لتدريب مكثف لرفع قدرة أجهزتها على العمل بكفاءة أكبر تتناسب واحتياجات الإصلاح الاقتصادي، وبما أن التدريب عادة مرتفع التكلفة، إذاً لا يمكن للدولة أن تحافظ على كوادرها المدربة من دون سياسة أجور جديدة. والإنفاق على التدريب من دون دراسة شاملة وسياسة جديدة للأجور والتعويضات سيعني إنفاقاً من دون مردود، أو ربما مردود على الغير. مثلاً كيف نؤهل كادراً في المصارف الحكومية إلى المستويات المعاصرة ثم نبقى ندفع له بضعة ألف شهرياً وهو يشغل رئيس قسم أو مدير فرع مصرف، بينما يأخذ مثيله في القطاع الخاص 150 – 250 ألف ليرة سورية شهرياً؟؟ ولا نتحدث هنا عن كوادر ومديري المصارف الخاصة من غير السوريين الذين تصل رواتبهم حتى عشرة آلاف دولار شهرياً.
التقاعس والفساد
إن انخفاض الأجور أدى إلى التقاعس والفساد والتستر عن الخطأ وعدم المحاسبة بسبب الوضع المعيشي للمقصرين، كما زاد من كلف المشاريع لأن انخفاض الأجر عن المستوى اللازم لتغطية النفقات الأساسية والضرورية لأصحابه ينعكس مباشرة على مستوى الإنتاج والإنتاجية لكون زيادة الإنتاج ورفع مستوى الإنتاجية يرتبطان إلى حد كبير بمستوى الأجور وارتفاعها.