سيريانديز - يسرى جنيدي
عادت الدراما السّوريّة التلفزيونيّة لتردّ اعتبارها في هذا الموسم الرّمضاني،وعاد معها مسلسل ترجمان الأشواق ليكون من أهم الأعمال لهذا الموسم،. حكاية المسلسل عن ثلاثة أصدقاء يساريين سابقين تفرّقهم ظروف الحياة،فيحافظ أحدهم على يساريّته بتشدّد( كمال- فايز قزق)ويهاجر الآخر منذ منتصف التسعينات ( نجيب- عباس النوري) ويعمل بالتأليف والترجمة ويطّلع على الاتجاهات الحداثويّة لليسار، أمّا الطبيب المشهور( زهير- غسان مسعود) يعتنق الصّوفيّة.
نقطة بداية الأحداث في قصّة المسلسل، و مبرّر تحرّك القصة، هي اختطاف( آنّا – ولاء عزّام) ابنة نجيب المُهاجر منذ عقدين،والتي كان قد تركها وهي طلفة، فيرجع الآن للبحث عنها، وبعودة الوالد تعود الصّداقة وتتجدّد بعد انقطاع طويل، تعود إلى سابق عهدها يعود الأب حاملاً معه كميّة كبيرة وفائضة من الحنين ليرى دمشق الجميلة بعيني ابنته" آنّا" من خلال مذكّراتها.
حري بنا التوقّف عند نمط الإخراج، والذّي ظهر غريباً عن المألوف في الحلقات الأولى، وذلك بسبب تشابه المسلسلات السوريّة والعربيّة عموماً وتقليدها بعضها لبعض، فلا نعلم من هو المخرج إلا عند قراءة اسمه، ولكنّ هنا في ترجمان الأشواق الحالة متفردة، وثمّة تجربة على مستوى اللّون، الإضاءة، وحركة الكاميرا، فبعد بضعة حلقات يشعر المُشاهد بألفة مع النمط الإخراجي، وأيضاً عند إعادة العمل في المستقبل،وهذه فرصة لصنّاع الدراما للبحث عن أنماط إخراج تتفق مع النصّ، وليس مع أعمال أخرى.
النّمط الّذي يعتمده ترجمان الأشواق يقوم على " السلاسة" أثناء الفُرجة الدراميّة، بطريقة توحي بالهدوء، ولكن في نفس الوقت تصل الحلقة إلى نهايتها بطريقة مباغتة،فيبرز الحدث المهم فجأة، على أرضيّة من السلوك اليومي المتوقّع، وبعد بضعة أحداث يقع توتّر تشويقي لدى المشاهد بأنّ هناك ما سوف يقع، ولكنّه لا يقع، وبدلاً عنه يحدث تفصيل آخر غير متوقّع، مع فرضيّة جديدة على الدراما المحليّة، وهي ( الواقعيّة المفرطة) التي تظهر في أداء النجوم الثّلاثة، من خلال مستوى فريد في الأداء، سواء على مستوى الدراما السوريّة، أو على مستواهم هم أنفسهم في أعمالهم السّابقة. ثنائيّة (التّشويق- الهدوء) الصّعبة،مع التناغم بين المشاهد، يكشفان شيئاً فشيئاً عن طبيعة الصّراع في الحكاية الدّرامية،فهي تبدو للوهلة الأولى أنّها خالية من شخصيّة " شريرة" تتسبّب في الصّراع، ولكنّ تباين الأصدقاء الثّلاثة، يجعل الصّراع من نوع آخر، فهو صراع على البطولة،من منهم هو البطل؟ الجواب هو أحد أنواع التّشويق الواضحة في العمل.
وهناك صراع آخر مرتبط بالزمن،وهو صراع الأجيال، جيل الآباء المتمثّل في والدة نجيب ( جميلة- ثناء دبسي) الصّارمة والحنونة في آن، و ( أبو كمال – حسام تحسين بك) المصاب بالزهايمر، والّذي يستحضر نتف من الماضي بشكل مستمر، و جيل ثاني يجسّده الأصدقاء الثلاثة، وأخيراً جيل الأبناء،الخلافات بين كمال وأولاده،وهناك الدكتور زهير والطبيبة التي تساعده في العيادة كجزء من تمرينها،والأهم صراع نجيب ضد الظروف لاسترداد الابنة المخطوفة،والتي تنتمي إلى زمن مختلف عن زمنه. الشرّ بالمفهوم التقليدي للقصّة متعلّق بظروف الحرب نفسها،نجيب ضدّ الخاطفين، زُهير ضدّ صعوبات المصالحات، وكمال ضدّ جيل الأبناء الّذي يتشكّل وعيه خلال هذه الحرب،وضدّ مجتمع استهلاكي يحاصره،يتمثّل في ( باسم- كنان حميدان) الذي يحاول أن يحوّل المكتبة إلى مقهى مربح.
النمط الإخراجي الّذي يحقق التشويق والهدوء في آن،قد يكون مؤسساً وفق مشاعر نجيب،بطل القصّة، هناك صراع داخلي غير ظاهر بالنّسبة إليه،مشاعر الألم لفقدان البنت والسعي لتحريرها من الخاطفين،أو معرفة أي شيء عنها/ مندمج بقوّة بمشاهر الألفة والأصدقاء والعائلة، بعد طول غياب عن مدينته. الصراعات الغرائبيّة قد تفسّر نمط الإخراج، القائم على وجهة نظر شخصيّة نجيب،بعد أكثر من عشرين عام، تجمّدت فيها حياته في المنافي، يعود لاستئناف عمره وحياته،هو يعي أنّه في مأزق، ولكنّه في مدينته الجميلة،وبين الأصدقاء، في أجواء دافئة تتكشّف له شيئاً فشيئاً،وهنا تأتي ضرورة البطء، كخيار إخراجي، مونتاجي، يظهر من حين لآخر في انعكاس لعوالم الشخصيّة الدّاخليّة، بينما يعود سريعاً عاديّاً عندما يظهر كمال أو زُهير.
يقول الروائي التشيكي ميلان كونديرا في روايته البطء" هناك علاقة سرّية بين البطء والذاكرة، كما بين السرعة والنسيان، لنتذكر بهذا الصدد، وضعية قد تبدو عادية للغاية، رجل يسير في الشارع، ثم فجأة يريد تذكر أمر ما، لكن الذاكرة لا تسعفه، في تلك اللحظة، بطريقة آلية يتمهل في الخطو، أمّا من يسعى إلى نسيان أمر طارئ شاق وقع له توًا، فإنّه على العكس يُشرع لا شعوريّاً في مشيته".
بطل المسلسل،نجيب، وبعد أن وصل البلاد،يُشبه من يستلقي في حوض استحمام ساخن،بصرف النّظر عن أسباب القلق،وهنا يبرز نوع جديد من الصّراع أيضاً، هناك حركة في كلّ مشهد،بطريقة تحقّق الاندماج والتشويق،ولكن، ومونتاجياً، يميل المخرج ،في بعض الأحيان،إلى التريّث في القطع، فيتحقق الاندماج عند الجمهور،ولكن فجأة يُلقي به في مشهد لاحق يبدأ من الذروة،وذلك السبب في الشعور بأنّ كل حلقة سرعان ما تنتهي،دون الشعور بزمن عرضها ككل.
المسلسل ينجح في تحقيق معادلة بصرية غاية في الصّعوبة،دمشق شبه غائبة عن الدّراما السوريّة،ولكنّها في كاميرا محمّد عبد العزيز حاضرة بقوّة،بألوانها وجمالها،بطريقة تُنافس الصور الفوتوغرافيّة الجميلة للمدينة،تلك الصور التي تنتشر هذه الأيّام على مواقع التّواصل لدمشق في الأربعينات والخمسينات، المسلسل لا يقوم فقط بسدّ ثغرة غياب المدينة أو الفضاء الجغرافي عن المدينة، بل أيضاً يقول: دمشق لم تزل جميلة،وها هو المسلسل يُظهرها بطريقة أخّاذة،منافساً بذلك الصور الفوتوغرافيّة،بانحياز سينمائي واضح،ومنافساً أيضاً كبريات المدن الجميلة العالميّة.
المحاور الثلاثيّة للشخصيّات ( نجيب- كمال – زهير) تتضح بطريقة إلقاء الحجر في الماء،وهذا النّوع من البناء جديد أيضاً على الدراما السوريّة، فقد درجت العادة أن نبدأ مع عدد من الشخصيات – المحاور،ثم نروح جيئة وذهاباً بينهم، ولكن في ترجمان الأشواق، نبدأ مع نجيب، الّذي يشبه وصوله أو عودته للمدينة إلقاء حجر في ماء، لتتسع الدوائر أكثر وأكثر، إلى أن تنكشف ملابسات وتفاصيل الشخصيّتين الأخريين، ثمّ يسيرون معاً،الآن في الحلقة الثالثة عشر، يبدو أنّ سباقاً قد بدأ بينهم،من يصل إلى خط البطولة أوّلاً.
المزاج والذهنيّة السّينمائيّة الواضحة في المسلسل، والّي ينجح المخرج في تجربته التلفزيونيّة الأولى بنقلها إلى المنازل، تلبّي حقيقة صناعيّة- فنيّة باتت ضروريّة اليوم، ففي السنوات العشرة الأخيرة، بدأت الشاشات الرقميّة تغزو المنازل تدريجيّاً،التلفزيونات ذات الدقة المنخفضة صارت أقل عدداً اليوم،وإمكانيات الشاشات الجديدة على مستوى المساحة واللونيّة وجودة الصورة و العمق،أصبحت تتطلّب معادلة جديدة،في الماضي كانت جماليّات الصّورة ليست مسألة حاسمة،وكانت التلفزيونات أقرب إلى "راديو" مع صورة ذات جودة منخفضة،اليوم ومع ازدياد مساحة الشاشة، ومسلسل ترجمان الأشواق بداية للاستفادة من ميزات الشاشات الحديثة،وذلك بنقل جماليّات السّينما إليها.
يبقى سؤال لا يمكن حسمه منذ الآن،وينتظر مزيداً من الحلقات ليتضح: ماذا لو كانت الحكاية من نوع سينمائي شهير،كون الكاتب والمخرج من خلفيّة سينمائيّة،وهي نوع شهير يُعرف بنوع " البلوغ" نجيب متوقّف عن الزمن منذ سفره،صحيح أنه قد حقق انجازات على صعيدي الترجمة والأفكار،ولكنّه يعود لاستئناف حياته،من خلال مذكرات ابنته،التي يتورط فيها يوماً بعد يوم.