كتب نعمان صاري
دعونا نعترف بداية أن الإدارة النقدية ممثلة بالمصرف المركزي وبمعاونة من جهات حكومية وتشريعات وقرارات إدارية مستجدة استطاعت السيطرة على ارتفاع أسعار صرف القطع الأجنبي في السوق الموازية ( وهو تعبير نفضله عن السوق السوداء . ودون الخوض في الانعكاسات الانكماشية لإجراءات تقييد حجم الكتلة المتداولة للنقد الوطني كأحدى السبل لتثبيت سعر الصرف، إلا أن الملاحظ هو عدم تراجع الأسعار في السوق المحلية نتيجة انخفاض سعر الصرف للمستوى الذي كان عليه في فترة سابقة ، بل إن الأسعار بقيت تشهد ارتفاعا رغم الثبات النسبي لسعر الصرف . الاستنتاج الذي لا بد أن يقفز إلى أذهاننا مفاده أن هناك عوامل أخرى غير سعر صرف القطع الأجنبي تلعب دورا واضحا في استمرار ظاهرة ارتفاع أسعار السلع والمواد في السوق ، ودعونا نحاول الإحاطة بهذه العوامل.
1- سياسة تقييد الاستيراد: لا شك أن سياسة تقييد حجم المستوردات كانت من الإجراءات التي ساهمت بتخفيض وثبات سعر الصرف، لكنها من جانب آخر ساهمت بارتفاع أسعار الكثير من السلع الضرورية التي تم تقييد استيرادها وليس لها بدائل محلية فكان لعامل الندرة أن يلعب دوره الحتمي في ارتفاع سعر هذه السلع إضافة لتأمين مثل هذه السلع بطرق غير شرعية وبسعر مرتفع بطبيعة الحال.
2- التصدير: من المعروف لدى الاقتصاديين والمشتغلين بالتجارة الخارجية ان انخفاض سعر صرف العملة الوطنية تجاه القطع الأجنبي ينشط الطلب الخارجي على منتجات تلك الدولة، وعلى الرغم من المعوقات الناتجة عن العقوبات المصرفية وغيرها إلا أن القطاع الخاص ينجح بتفاديها والقيام بأنشطة التصدير ولكن بشكل أساسي تصدير المنتجات الزراعية والغذائية وهو ما ينعكس على أسعار هذه المنتجات ويعطي انطباعا سريعا ومباشرا عن ظاهرة ارتفاع الأسعار.
3- تقنيين عرض حوامل الطاقة: والمقصود بها الطاقة الكهربائية والمحروقات بأنواعها كالمازوت والغاز والبنزين. إن تقنين الكهرباء المرهق وعدم توفر المحروقات يرتب على المنتجين بقطاعات الزراعة والصناعة والخدمات كلفا إضافية عالية سيعكسونها ما استطاعوا على سعر مبيع المنتج وهو ما يعمل على زيادة الأسعار في السوق المحلية.
4- زيادة الضرائب : دون الخوض في مدى أحقية المشرع بزيادة الضرائب ومدى حاجة الخزينة العامة لإيرادات إضافية لا بد من الإقرار أن الزيادات الكبيرة على الضرائب والرسوم والبدلات التي تمت خلال الفترة الأخيرة ساهمت بارتفاع الأسعار سواء للسلع الاستهلاكية أو السلع المعمرة أو الخدمات.
والواقع أن هذه الزيادات الضريبية كانت من الضرائب المباشرة التي يسهل على الإدارة الضريبية تحصيلها ومنها ضريبة البيوع العقارية ورسوم التسجيل العقاري، في حين بقيت الضرائب غير المباشرة وضريبة الإنفاق بعيدة وسواها من الضرائب غير المباشرة بمنأى عن هذه الزيادات، كما لم تنجح الإدارة الضريبية بمعالجة التهرب الضريبي وهو ما يعود على الخزينة بعائدات ضخمة لكنه يتطلب وجود إدارات ضريبية حديثة وبعيدة عن الترهل وحالات الفساد .
لقد أدت العوامل التي أشرنا إليها أعلاه إلى المزيد من ارتفاع الأسعار رغم الثبات النسبي لسعر صرف القطع الأجنبي رغم ما كان يعتقد أن استقرار سعر الصرف هذا سيعني انخفاضا واستقرارا في أسعار السلع والخدمات وهو ما لم يحدث ، بل أن ذلك لن يحدث إلا من خلال سياسات وإجراءات متكاملة ومتتابعة، وذلك حديث ذو شؤون وشجون.