الثلاثاء 2023-05-23 14:33:13 **المرصد**
معضلة الرسوم الدراسية الجامعية بين تأمين الجودة وتوفير فرص الالتحاق بالتعليم العالي

كتب الدكتور وائل معلا
من أجل تلبية الطلب المتزايد على التعليم العالي، تحتاج الجامعات إلى موارد مالية متزايدة، ومن هذا المنطلق تسعى العديد من الجامعات في جميع أنحاء العالم، إلى تنويع موردها المالية والحصول على مصادر دخل إضافية، إلى جانب الإعانات الحكومية، وذلك لتحسين خدماتها وقدراتها التنافسية.

تعدُّ الرسوم الدراسية التي تحصّلها مؤسسات التعليم العالي من المنتسبين إليها الوسيلة الرئيسية التي يساهم فيها الجمهور في تمويل التعليم العالي. وتساعد الرسوم التي يسدّدها الطلاب إلى الجامعات في تعويض تكاليف دعم التعليم العالي التي أصبحت باهظة الثمن، وتمكّن الحكومات من توسيع نظام التعليم العالي وتقليل الإنفاق الحكومي عليه.

كما ترى بعض الحكومات أن المؤسسات التي تستوفي نسبة عالية من إيراداتها من الطلاب تُصبح أكثر تركيزاً عليهم وأكثر استجابة لاحتياجاتهم ومتطلباتهم، مما ينعكس إيجاباً في نهاية المطاف على جودة عملية التعليم والتعلّم فيها.

لكن الرسوم الدراسية التي تستوفيها الجامعات من الطلاب تؤثر بشكل كبير في الأهداف المزدوجة للتعليم العالي وهي: ضمان جودة البرامج التعليمية التي تقدمها الجامعات من جهة، وتوسيع نطاق الالتحاق بمؤسسات التعليم العالي من جهة أخرى. فمن دون استيفاء رسوم دراسية تعكس القيمة الفعلية للتعليم العالي قد لا تتوافر موارد كافية لدى الجامعات لتقديم برامج تعليمية عالية الجودة بكل ما تتطلبه من وسائل تعليمية حديثة وتجهيزات مخبرية ومشافٍ وغيرها. لكن ارتفاع الرسوم الدراسية قد يزيد، من جهة أخرى، من الحواجز التي تحول دون التحاق الطلاب المؤهلين من الأسر ذات الدخل المنخفض بمؤسسات التعليم العالي.

من هذا المنطلق، فإن تحقيق الأهداف المزدوجة للتعليم العالي عن طريق تحديد الرسوم الدراسية المناسبة إلى جانب الإنفاق الحكومي على التعليم العالي، يعدُّ أمراً في غاية الأهمية، ولعلّ من المفيد جداً في هذا الخصوص الاطلاع على التجارب العالمية ودراستها، لا لنسخها وإنما لتحليلها والاستفادة من نتائجها.

التجربة الإنجليزية

أظهرت نتائج بحوث أجراها مركز التعليم العالي العالمي في جامعة لندن Centre for Global Higher Education أن انتقال إنجلترا إلى نظام الرسوم الدراسية منذ عام 1998 حتى الآن أدى إلى زيادة جودة البرامج التعليمية وإلى ارتفاع معدلات الالتحاق ومزيد من تحقيق المساواة في التعليم العالي. فقد تبين أنه على مدى العقدين الماضيين، أدى اعتماد الرسوم الدراسية إلى زيادات كبيرة في تمويل التعليم العالي، على حين استمرت معدلات الالتحاق في الارتفاع، وضاقت فجوة المشاركة بين الطلاب الأغنياء والفقراء. وكان أسرع نمو في معدلات الالتحاق منذ إدخال الرسوم الدراسية هو من بين الفئات الأقل دخلاً، ويرى الباحثون أن هذا يرجع إلى حقيقة أن الزيادات الكبيرة في تكلفة الالتحاق بالجامعات كانت مصحوبة بزيادات مقابلة في المساعدات الطلابية، وبانخفاض في عدد الطلاب المداومين جزئياً part-time students، الذين يتعذر عليهم في الغالب الحصول على هذه المساعدة، خلال الفترة الزمنية نفسها.

وعلى عكس البلدان الأخرى ذات الرسوم الدراسية المرتفعة، يسمح نظام القروض المشروطة بالدخل income-contingent loans المتبع في إنجلترا للطلاب بالاقتراض بأمان مقابل دخلهم المستقبلي، ويضمن هذا النظام ألا يبدأ سداد القروض إلا بعد أن يتخرج الطالب ويتجاوز دخله عتبة معينة. وتحصّل مدفوعات سداد القروض من قبل أرباب العمل بحسمها من رواتب الموظفين وتحويلها إلى الجهة المختصة.

التجربة الفيتنامية

تعدّ التجربة الفيتنامية إحدى التجارب المهمة الجديرة بالدراسة والتحليل. فقد اتبعت فيتنام منذ عام 1997 نهجاً مماثلاً لسياسات تقاسم تكاليف التعليم العالي المتبعة في العديد من الدول الغربية، فسمحت للجامعات بفرض رسوم دراسية على الطلاب، إلى جانب الحصول على مصادر تمويل أخرى مثل التبرعات والهبات وما تجنيه من نقل التقانة.

يموّل نظام التعليم العالي في فيتنام من مصادر متنوعة منها: ميزانية الدولة، ومن القطاع الخاص، والرسوم الدراسية، ومصادر أخرى مثل «المساعدة الإنمائية الرسمية» والاستثمارات الأجنبية. وتشكّل نفقات التعليم العالي التي تتحملها كل أسرة نسبة كبيرة من إجمالي إيرادات الجامعات، على حين تظلُّ الدولة الممول الرئيسي لهذا القطاع، إذ تؤمن 55 بالمئة من الميزانية الإجمالية للجامعات الحكومية، تؤمن الرسوم الدراسية نسبة 42 بالمئة من ميزانيتها الإجمالية.

أما الجامعات الفيتنامية الخاصة فهي تعمل كمؤسسات تجارية هادفة للربح على الرغم من ادعائها بأنها مؤسسات غير ربحية. وهي تعتمد بالكامل تقريباً على عائدات الرسوم الدراسية. والدعم الوحيد الذي تحصل عليه من الحكومة هو الحوافز الضريبية، والأراضي المخصصة لها بتكلفة أدنى، أو من دون أي تكاليف في بعض الحالات.

ويُنظر في الغالب إلى الجامعات الخاصة على أنها الخيار الثاني بعد مؤسسات التعليم العالي العامة. وتتمتع مؤسسات التعليم العالي الخاصة بقدر أكبر من الاستقلال الذاتي والتحرر من سيطرة الدولة مقارنة بنظيراتها من القطاع العام، لكن هناك أيضاً مخاوف تتعلق بجودة ما تقدمه من برامج تعليمية، ومن نقص إشراف الدولة عليها (على الرغم من وجود دلائل على أن بعض الجامعات الخاصة تُحسِّن مكانتها باستمرار)، وهناك حاجة إلى آلية مساءلة فعالة لمعالجة هذه المشكلة «الجزئية» في تنظيم الدولة للتعليم العالي الخاص.

في دراسة بحثية أجريت عن مدى استعداد طلاب الجامعات الفيتنامية لدفع الرسوم الدراسية في سياق تقاسم التكلفة، تبين أن الطالب، في المتوسط​​، على استعداد لدفع 400 دولار أميركي سنوياً مقابل دروس إضافية خارج الجامعة لتحسين مؤهلاته ومعارفه ومهاراته. وأظهرت الدراسة التي شملت 285 طالباً أن الطالب في جامعة عامة مستعد لإنفاق ما متوسطه 462 دولاراً أميركياً سنوياً على دروس إضافية خارج الجامعة، مقارنةً بـــ342 دولاراً سنوياً بالنسبة للطالب الذي يدرس في جامعة خاصة.

والأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أن 237 من 285 طالباً شاركوا في الاستطلاع قالوا إنهم على استعداد لإنفاق هذه الأموال على الرسوم الدراسية بالجامعة إذا كان بإمكان الجامعة تقديم الخدمة العالية الجودة نفسها. تشير هذه النتائج بوضوح إلى أن طلاب التعليم العالي الفيتناميين على استعداد لدفع رسوم دراسية إضافية.

وفي دراسة بحثية أخرى أجريت عن الاستدامة المالية لمؤسسات التعليم العالي الفيتنامية شملت 51 جامعة فيتنامية في الفترة 2015-2017 جرى فيها فحص مستوى تنوع مصادر الدخل في هذه الجامعات، أظهرت النتائج أن مؤشر الصحة المالية للجامعات الفيتنامية مقلق عندما لا يكون لهذه الجامعات مصادر دخل متنوعة.

الخلاصة

يلاحظ بوضوح مما سبق أن هناك تناقضاً عندما يتعلق الأمر بتحقيق الأهداف المزدوجة للتعليم العالي بضمان الجودة وتيسير الالتحاق بالجامعات في آن معاً. فمن أجل الحصول على نظام عالي الجودة، يجب أن يساهم الطلاب فعلياً في تمويل العملية التعليمية، إلى جانب الدعم الحكومي للجامعات. ومن جهة أخرى، إذا كان دعم الدولة منخفضاً بينما رسوم الطلاب مرتفعة، فإن ذلك يقلل من فرص الالتحاق بالجامعات.

الحل الأمثل لهذه المسألة يكمن في إيجاد توازن بين مكونات الموارد المالية للجامعات تحقيقاً للأهداف المرجوة. ويكون ذلك بتحديد قيم مدروسة بعناية ومناسبة للرسوم الدراسية المستوفاة من الطلاب إلى جانب توفير موارد أخرى، الأمر الذي يتيح تحقيق هدفين اثنين: جودة الخدمات والعملية التعليمية، وإتاحة فرص الالتحاق بالجامعات للراغبين في ذلك. لكن هذا التوازن يجب أن يقرّر بناءً على دراسات وبحوث ميدانية اقتصادية واجتماعية وتنموية.

ويبقى الحل الأفضل لمسألة تحديد الرسوم الطلابية الجامعية اتباع مبدأ الدفع بحسب القدرة (أي ادفع ما يمكنك تحمله)، وهو مبدأ يتبعه العديد من الجامعات العالمية حيث يتاح للطلاب الذين لا قدرة لهم على تحمل أعباء الرسوم الدراسية المرتفعة إمكانية الحصول على مساعدات مالية، أو منح دراسية قائمة على الاحتياجات، أو قروض دراسية.

ٍ جميع الحقوق محفوظة لموقع syriandays - syrianews - سيريانديز- أخبار سورية © 2024