بقلم المهندس : إبراهيم مضان حسن
منذ حوالي ست سنوات وأثناء تنفيذ المسح الاجتماعي والاقتصادي للقاطنين في جبل أبو رجمين الواقع إلى الشمال الغربي من مدينة تدمر بمسافة أربعين كيلومتر لإنشاء قاعدة بيانات تستند عليها خطط بناء قرى نموذجية حول الجبل ينتقلون إليها من منطقة نواة غابة البطم الأطلسي لإتاحة الفرصة للأشجار بالتجدد الطبيعي وعودتها إلى سابق عهدها من الكثافة , ولتحسين مستوى الخدمات التي من الممكن أن يتم تأمينها لهم من صحية وتعليمية ومرافق أخرى, اعترض تنفيذ العمل مجموعة من الموانع المختلفة. خاصة وأن أبو رجمين ومنذ القرن الثاني عشر يعتبر الموطن الأصلي لقبيلة العمور العربية المعروفة
وقد تدرجت هذه الاعتراضات من البسيطة إلى المعقدة , ولكن كلها كانت تدور حول محور واحد هو التمسك بالأرض وما تعني لهم من إرث وتاريخ وانتماء , ولم يكن الجهد كبيراً في إقناع الكثير من المعترضين بجدوى المشروع ولأسباب بسيطة وهي أن عملية التوعية التي انتهجناها كانت من مادة وعيهم وقناعاتهم ومن معرفتنا بأصالة وعادات وتقاليد العربي الأصيل ,ومن جملة المواقف التي لا تنسى ذلك الرجاء الحار الذي رفعه أحد المشمولين بعملية المسح وهو يطلب عدم إخراجه من الجبل وتمسكه الشديد بالبقاء فيه معللاً ذلك أن هذا المكان يحجب فقره ويجعل معرفة الناس بحاجاته بعيدة عن المس بكرامته وشخصيته
وقفت طويلا أمام طلبه ومعناه وإشاراته , ورحت أقارن بين الرجل وبين بعض الأشخاص الذين التقيهم في أماكن متفرقة ومتنوعة – مدن – قرى – أحياء راقية – وأخرى شعبية – وقد امتلأت بطونهم شبعاً ومساكنهم سعة وسياراتهم حداثة ورفاه وأرصدتهم في البنوك مالاً , ولا تسمع منهم إلا الشكوى وادعاء الحاجة وإظهار الفقر.
هذا عدا أن البعض منهم يحمل شهادات علمية عليا وأحياناً رفيعة ولم تمكنهم هذه المعارف من اكتشاف أن الوطن هو اللباس الجميل الذي يستر العيوب ويخفي العورات ويحافظ على الكرامة ومصدر للحياة الحرة النقية من أي دنس وتلوث مهما كان مصدره, وبالمقابل لم تستطع الظروف الصعبة والقاسية والفقر الشديد أن يحجب رؤية قاطن الجبل عن تلك القيم وهو لا يحمل الشهادات الدنيا أو العليا ولا المتوسطة ولا يقرأ أو يكتب .
استقر هذا التساؤل وهذه المقارنة في أرشيف الذاكرة مدة من الزمن حتى أتت هذه الفترة وهي تحمل من يمد يده ويسحب الملف ليضعه على طاولة التأمل من جديد , ولكن مع أوراق جديدة أضيفت إلى القديمة عمقت بدورها هوة التساؤل بعد أن ضربت وبعنف قشرة استقرار المنطق الدارج والمعروف والمتعارف عليه بين مختلف مستويات العقول وتفاوت قدرات الإدراك .
وقد كُتب على صفحات تلك الأوراق عن أؤلئك الذين ألفوا الكتب وأنجزوا الكثير من الدراسات والأبحاث وأشرفوا على مختلف رسائل التخرج لمئات الطلاب والدارسين , وترأسوا الإدارات والأقسام العلمية والثقافية في شتى التخصصات من أبسطها إلى أدقها في مختلف دول العالم العربي والأوربي ووصلت مراتبهم العلمية إلى درجة العالم والمرجع النهائي الذي لا يستطيع تجاوزه أحد كائنا من كان , وكيف باعوا تأثيرهم الكبير ببضع ملايين من الدراهم مقابل أن يستخدموا نفوذهم في إقناع الناس أن الخيانة هي الوفاء , والتدمير هو البناء , والحرب هي السلام , والجبن هو الشجاعة , والاستكانة هي الحكمة وقتل الأخ لأخيه هو مقاومة للهيمنة , ووضع اليد بيد المعتدي هو حضارة , وبنفس منطق العلم ولكن بعد تغيير الاتجاه والجهة والوجهة.
استغرقت طويلا وضمن ظروف نوعية وغاية في الغرابة محاولا أن أعثر على تفسير لهذا التناقض الصارخ بين رجل الجبل وهؤلاء العلماء !!
فلم أرى نفسي إلا وقد ارتمت خارج منطقة الوعي و قبضت على أجوبة لا بديل لعفويتها وبساطتها وشفافيتها : وهي أن المعرفة كلها في جواب الطفل على سؤال : لماذا تريد العودة إلى المنزل سريعا عندما تخرج منه؟؟ , وفي جواب الشيخ عن السؤال: لماذا لا تسافر لمدة قصيرة خارج القرية للترفيه عن نفسك؟؟ , وهي في عجز أوسع المعارف وأضخم الأكاديميات والجامعات والمدارس الفكرية والفلسفية عن الجواب لسؤال : ما هو تعريف الوطن ؟؟