من المستغرب فعلاً أن تتخذ أوساط رسمية غربية تنادي بـ «حرية التعبير»، عندما يتعلق الأمر بمهاجمة المقدسات الإسلامية بما في ذلك الرسوم الكاريكاتورية، المواقف السلبية المتمثلة بالمقاطعة من مؤتمر مكافحة العنصرية قبل أن يبدأ أعماله، وأن تتمّ تسميته في الإعلام الغربي – وبالنتيجة في معظم الإعلام العربي بـ «مؤتمر العنصرية»، بينما هو مؤتمر لمكافحة العنصرية واتخاذ موقف واضح وجريء منها.
هذه المواقف بنيت على معطيات مؤتمر مكافحة العنصرية الذي عقد في مدينة ديربان بجنوب إفريقيا عام 2002 حين عبّرت معظم دول العالم «ما عدا الحكومات الغربية» عن غضبها من الإجراءات العنصرية التي بلغت ذروتها في جرائم الحرب المرتكبة في غزة، وفي هدم منازل المقدسيين العرب، ومصادرة أراضي العرب لصالح مستوطنين يهود حصراً، والتي تتخذها وتمارسها السلطات الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني خاصةً الطاقم الجديد المتربع على السلطة حالياً وهم من عتاة المتطرفين الصهاينة الرافضين للسلام والعيش مع العرب. وتضم حكومة إسرائيل الحالية سياسيين مثل ليبرمان الذي يدعو إلى ضرب العرب بالقنبلة الذرية ولذلك كان التوقع السليم هو أنّ أعضاء هذا المؤتمر، وخاصة الغربيين، سوف يدينون بما لا يقبل الشكّ الممارسات العنصرية من قبل المتطرفين من حكام إسرائيل، وهي جرائم واضحة ومفضوحة ولا يمكن حتى لضحايا الابتزاز الإسرائيلي أن يدافعوا عنها.
وكان منظراً غريباً إلى حدّ البشاعة أن يرفض ممثلو بلدان الديمقراطية، من خلال انسحابهم من المؤتمر، أن يسمعوا أو يروا البراهين على الممارسات العنصرية الإسرائيلية ولا أن يتعاملوا معها أو يتخذوا موقفاً منها. كلّ هذا يحدث في إطار ثقافة غربية تدّعي «حرية الكلمة» و«حرية الإعلام» حتى حين يتعلق الأمر برسومات مشينة تستهدف شخصية مقدسة كالرسول العربي محمد (ص) حيث رأينا كيف يتبارى المسؤولون الغربيون (الذين تمّ ترفيعهم منذ ذلك الوقت) ليتباهوا بالقيم الغربية مثل حرية الصحافة وحرية الكلمة لديهم، وأنهم لا يملكون القدرة على إسكات أحد أو حجب تعبيره في مجتمع ديمقراطي يؤمن بحرية «التعبير».
ولكنّ القاعدة انهارت تحت أقدام المنسحبين الغربيين، حين عبّر الرئيس الإيراني أحمدي نجاد عن «رأيه» عن جزء يسير مما يعرفه عن معاناة عرب فلسطين المحرومين منذ ستة عقود من حقوقهم في الحياة والحرية والتعبير. والسؤال هو أين يقع هذا الفعل الغربي من مبدأ حرية التعبير، الذي يرفعونه كشعار، والتي لم يتجاوزها الرئيس الإيراني، ولماذا يخرجون من القاعة حين يتحدث هو ولا يمتنع أحد من الخروج من قاعة تضمّه مع مسؤولين إسرائيليين دعوا علناً إلى قتل العرب جميعاًّ، وإلى ضربهم بالقنبلة الذرية، وإلى تجويع الفلسطينيين أكثر إلى حدّ الموت، وإلى قتل كلّ من هم خلف جدار الفصل العنصري؟ هل الجواب أنهم متفقون ضمناً مع الممارسات الإسرائيلية ضدّ العرب، ويعتبرونها مقبولة لأنها تطال العرب، ولأنها مرتكبة من قبل «ضحايا المحرقة» التي ارتكبها النازيون الألمان قبل أكثر من سبعين عاماً ضدّ بعض اليهود آنذاك.
إذا كان المسؤولون الغربيون يرفضون حتى أن يستمعوا إلى وصف لعذابات الضحايا العرب، فكيف نتوقع منهم أن يتخذوا موقفاً ضدّ هذه العذابات؟ والمستغرب أيضاً أنّ أحداً لم يتوقف ليقارن ما قيل مع الأفعال التي تتجاوز إلى حدّ كبير بعنصريتها وإجرامها كلّ ما قيل وكأنه من المقبول أن يقوم المتطرفون الإسرائيليون بأسوأ الممارسات العنصرية وليس من المقبول للآخرين حتى أن يعترضوا على هذه الممارسات بالقول وبالقول فقط! هل هناك أشدّ نفاقاً من هذا الموقف؟!
في الوقت الذي كان مؤتمر مكافحة العنصرية ينعقد في جنيف، كان المستوطنون الإسرائيليون يعيثون فساداً بحياة وممتلكات الفلسطينيين، وكانت الجرافات الإسرائيلية، وما تزال ويومياً، تهدم المنازل الفلسطينية حصراً دون غيرها في القدس الشرقية، والمدن الأخرى، وكانت قوات الاحتلال الإسرائيلي تدشّن في الجليل أولى خطوات الترانسفير، وذلك بمصادرتها آلاف الدونمات من أصحابها الفلسطينيين لإقامة مطار دولي في منطقة مجيد وسهل مرج ابن عامر ضمن مخطط لتشجيع تهويد الجليل وبدء العمل ببرنامج الترانسفير والترحيل الجماعي لفلسطينيي 48.
لقد شهد كل مبعوثي الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إلى فلسطين على عنصرية الكيان الصهيوني وممارساته الإجرامية بحقّ الشعب الفلسطيني، وكان الجواب هو إقالتهم من مناصبهم أو التشهير بهم أو دفعهم إلى الهامش بحيث لا يتجرأ أحد غيرهم على قول كلمة صدق.
ولن يجدي نفعاً أن تحاول أن تنظف هذه القوى الغربية صفحتها بعد أن تتمّ إبادة الفلسطينيين، وتهويد القدس تماماً كما فعلت هذه القوى بعد إبادة السكان الأصليين في الولايات المتحدة وأستراليا وكندا حين تسمح الآن وبعد قرون بصناعة الأفلام ونشر الكتب عن عذاباتهم. لقد آن الأوان للديمقراطيات الغربية أن تطهّر نفسها من الإثم قبل وقوع جريمة الإبادة الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين، وليس التواطؤ على وقوعها ومواصلة التباهي الفارغ بالقيم الغربية وبمبادئ الديمقراطية وبحرية التعبير بعد فوات الأوان.
وإلا، كيف نفسّر الحديث اليوم عن التعذيب المروّع للعراقيين والذي ذهب ضحيته الآلاف بينما كان من الممنوع ذكره في مراكز الأبحاث الأمريكية لحظة وقوعه، وفي حين كافأ الرئيس أوباما الجلادين بعدم المحاسبة. لقد شاركت بندوة عن العراق في مركز ويلسن في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2005، وحين تحدثت عن التعذيب والاغتصاب في العراق استشاطت المحررة في الواشنطن بوست غضباً، وهي أمريكية من أصل عربي، وأكّدت أنّ الجنود الأمريكيين لا يمكن أن يقوموا بمثل هذه الأعمال، فهم «جنود لدولة متحضرة» قاصدةً طبعاً أنّ جنود دول أخرى غير غربية وغير متحضرة يمكن أن يقوموا بمثل هذا العمل. والأمر ذاته ينسحب على امتلاك الأسلحة النووية والضجة المثارة حول قدرة إيران على تصنيع أسلحة نووية رغم أنّ دولاً عديدة في العالم تمتلكها بمن فيها «إسرائيل».
والمبرّر الذي يسرده هؤلاء المعترضون هو أنّ العالم الحرّ يجب ألا يسمح بوقوع أسلحة نووية بأيادي «مثل هؤلاء». وهذا بحدّ ذاته تعبير عنصريّ ولا يمكن الوثوق بالبعض الآخر وهم حصراً «المسلمون» لأنهم لا يحسنون التصرّف بها، مع أنّ التاريخ يعلم من الذي استخدم الأسلحة النووية ضدّ السكان المدنيين ومن الذي يرتكب جرائم الحرب ضدّ المدنيين العُزّل، ومن يستخدم التعذيب ضمن سياسة رسمية تحمل توقيع الرئيس بوش وأركان إدارته الذين ارتكبوا جرائم ضدّ الإنسانية.
إن الموقف الغربي المحابي لجرائم حكام إسرائيل وعنصريتهم التي لا يخفونها هم أنفسهم بل يفاخرون بها، ويجسدونها في قوانين وأنظمة وإجراءات رسمية، هذا الموقف المحابي هو الذي سمح لهؤلاء المتطرفين من حكام إسرائيل بالاستمرار في ارتكاب الجرائم طوال عقود ضدّ الفلسطينيين العُزّل، وهو الذي شجّع هؤلاء العنصريين على شنّ الحروب وحرمان الفلسطينيين من الحرية. محاولة السياسيين الغربيين تفادي ابتزازهم بالمحرقة أو بفزاعة معاداة السامية من قبل اللوبي الإسرائيلي بعمل أخرق يتمثل بتصوير «إسرائيل» وكأنها مجتمع الملائكة المطهّرين إنما هي فعلاً محاولة مشينة، فالحقيقة المرّة التي يجب أن يواجهها السياسيون الغربيون اليوم أنّ من يسمونهم «ضحايا المحرقة» يرتكبون المحرقة فعلياً اليوم، وأنّ ضحايا محرقة اليوم هم الفلسطينيون. إنّ مغادرة السياسيين الغربيين لقاعة المؤتمر تعني ارتكابهم للإثم الذي ارتكبه أسلافهم في الثلاثينيات من القرن الماضي عندما تواطؤوا مع جلادي المحرقة النازية بالمحاباة والسكوت