سيريانديز
تسير عمليات ترميم الجامع الأموي الكبير في مدينة حلب بخطاً متأنية ودقيقة لتشمل كل حجر فيه طالته يد الإرهاب التي حاولت طمس معالم هذا الصرح الحضاري الأثري الذي صمد بوجه أعتى الزلازل عبر المراحل التي مر بها منذ بنائه.
مئذنة الجامع التي تعد تحفة فنية عريقة بطرازها المعماري تعرضت لضرر كبير وتهاوت أحجارها جراء تفجيرها المقصود والممنهج من قبل الإرهابيين لتعود الأيادي الوطنية لجمعها وترتيبها وترميمها استعدادا لإعادة بنائها من جديد.
وللوقوف على عمليات الترميم في الجامع الأموي بكل مكوناتها الحجرية والخشبية قامت كاميرا سانا بجولة في الجامع للاطلاع عن كثب على عمليات الترميم والتقت الدكتور صخر علبي الأستاذ في كلية العمارة بجامعة حلب مدير مشروع صيانة وترميم الجامع والذي قال: “منذ تحرير حلب من الإرهاب دخلت الورشات المتخصصة إلى الجامع وكان الوضع يرثى له لتعرضه لتدمير ممنهج على أيدي المجموعات الإرهابية وكان فيه أنقاض ومتاريس وهذا تطلب عملا كبيرا لترحيل الأنقاض وإزالة السواتر وتم وضع خطة عمل ودراسات للبدء بأعمال الترميم”.
ويضيف علبي: “في بداية العمل تم التنبه للمخاطر التي تهدد أعمدة الجامع التي ألحق بها الأذى جراء القذائف وكان لا بد من تدعيمها وتقويتها وتم الانتقال للكشف على موقع المئذنة التي تحولت إلى تل من الركام بعد تفجيرها من قبل الإرهابيين وهذا تطلب وضع خطة لتوثيق الأحجار وتصنيفها ووضع هوية ورقم لكل حجر ما استغرق وقتا طويلا لتوثيقها كما تمت الاستعانة بجهاز متطور لدراسة ومعرفة مقاومة هذه الأحجار وإلى أي حد يمكن الاعتماد عليها في إعادة البناء وعليه تم وضع خطة طموحة لإعادتها كما كانت عليه وذلك كله بأياد وطنية دراسة وتنفيذا”.
ويشير علبي إلى أنه تم الكشف على الجانب الشرقي من الجامع المتاخم لأسواق المدينة القديمة والمتداخل معها وهو مدمر ويتم العمل على ترميمه بالتوازي مع عمليات تأهيل المئذنة إضافة لترميم سقف وسطح الجامع الذي طالته القذائف لافتا إلى أن الواجهات الحجرية للجامع لم تسلم من الخراب وحرقت جميع الأبواب والمنجور الخشبي بطريقة همجية ويتم العمل على إعادة ترميمها من خلال ورشتين واحدة للخشب لتصنيع جميع أنواع المنجور الخشبي بالاعتماد على الكتب والمراجع القديمة لتوثيق عمليات الترميم وورشة أخرى لتصنيع الحجر وترميمه.
ويوضح علبي أن الجامع يمتاز بمئذنته والصحن الذي هو أرضية الجامع المبني بأشكال هندسية متناغمة لكن اليوم تغطيها أحجار المئذنة لتوثيقها وهناك الواجهة الرئيسية والقبلية للجامع وتحتوي تشكيلات وزخارف خشبية وتم استبدالها في السابق واليوم نقوم بتصميم النسخة الأصلية لهذه الواجهة التي تتميز بأنها تحتوي على 12 بابا وكل باب تختلف زخرفته عن الآخر وهذا يقوم على فلسفة الفن الإسلامي لجهة عدم التكرار وإنما التناغم الفني مع بعضها البعض لتشكل لوحة متكاملة.
ويبين علبي أن الجامع رمم بين العامين 1999 و 2005 ووثقت جميع عناصره الأمر الذي ساعدنا في عمليات الترميم الحالية لكن الأحجار تعرضت للأذى وطلقات الرصاص والقذائف جراء الإرهاب وهذا تطلب وقتا وجهدا كبيرين للوصول لخلطة مناسبة لملء هذه الثقوب وتجربتها خلال مدة شهر ومعرفة قساوتها وكل ذلك أدى إلى تحقيق نتائج جيدة وتم تطبيقها على الواجهة الخارجية للجامع.
المهندس أنس صادق من مؤسسة الإنشاءات العسكرية في حلب وهو المشرف على تنفيذ أعمال الترميم يبين أن ورشات المؤسسة دخلت إلى الجامع بعد تحريره من المجموعات الإرهابية وعملت على إزالة الأنقاض والقيام بأعمال الترميم اللازمة لبعض القباب والأعمدة والفجوات الموجودة في الجدران وتم البدء بأعمال الخشبيات والاكساءات إضافة إلى العمل الأهم وهو فرز حجارة المئذنة بموجب دراسات معينة وترميمها وتنسيقها وتأمين جهاز متطور لقياس متانة الحجر ومقاومته لإعادة تركيبه بنفس الموقع بإشراف الجهة الدارسة والأثرية وسيتم فك جذع المئذنة وإعادة بنائه بنفس الأحجار الموجودة وتأمين الأحجار بدل التالفة من المواقع الموجودة حول حلب.
المهندس تميم قاسمو عضو لجنة إنجاز الجامع الأموي قدم بدوره لمحة تاريخية عن الجامع موضحا أن بناءه يعود لأواخر القرن الأول الهجري 97 للهجرة وبناه سليمان بن عبد الملك الذي كان أميرا لحلب واراد أن يضاهي به الجامع الأموي بدمشق لافتا إلى أن الجامع تعرض عدة مرات للتخريب نظرا لكون حلب تقع على حدود الدولة العربية مع الدولة البيزنطية وفي كل مرة كان يتم إعادة بنائه وترميمه.
وتحدث قاسمو عن مكونات الجامع الرئيسية حيث يتألف من قبلية و 3 أروقة وصحن داخلي ومئذنة عريقة وفي القبلية يوجد مقام للنبي زكريا يكسوه القيشاني الجميل كما يوجد في الجامع المنبر الخشبي الذي يعود للفترة المملوكية ويحتوي صحن الجامع على مكان للوضوء ومنهل للشرب ومزولتين واحدة أفقية والأخرى شاقولية والأخيرة أقدم وهي موجودة على أعمدة الرواق الشمالي أما المزولة الأفقية التي توجد على عمود صغير في ساحة الجامع فهي متطورة وأقرب إلى الاسطرلاب ويتميز الجامع بمئذنته ويبلغ عمرها 950 عاما وبنيت في العصر السلجوقي وهي فريدة بطرازها المعماري وتعد مدرسة في البناء.
كاميرا سانا تابعت أعمال ترميم الأبواب الخشبية وتحدث باسل كيتوع عن القناطر الخشبية التي يتم تنفيذها ويبلغ عددها 12 قنطرة على شكل لوحات ارابيسك معشقة بالخشب ويتم تثبيتها وفق مخططات مدروسة بعناية ودون استخدام المسامير ويتم تجهيز هذه اللوحات لتثبيتها فوق الأبواب القبلية ويستخدم فيها خشب السنديان والجوز.
العامل حسام زنابيلي أوضح أنه يقوم بالحفر حول الأعمدة المتضررة وتثبيت القواعد للدعامات التي تغرس قرب العمود لإعادة تأهيله.
أما النحات عبد الجيار عزوز فأوضح أنه يقوم بعمليات ترميم الحجارة واستبدالها بحجارة مماثلة في حال كانت تالفة باستخدام مطرقة تسمى الشاحوطة وهذا العمل يستغرق وقتا طويلا حيث ينجز كل ثلاثة أيام حجرا واحدا فقط وقام بتجهيز وترميم مزاريب الجامع والشرفيات والمقرنصات بينما يواصل عامل آخر تنزيل الحجارة التي تنقلها رافعة ضخمة تم نصبها خصيصا لأعمال البناء ونقل الحجارة.
وتتواصل عمليات ترميم الجامع الأموي كخلية نحل بلا كلل أو ملل وبمنتهى الدقة والاتقان تنفذها أياد وطنية حريصة على إعادة هذا الصرح الحضاري إلى وضعه السابق.
قصي رزوق