د. عبد اللطيف عمران
لم يأتِ من فراغ ضعف انعكاس أثر تقدّم العلوم الاجتماعية على مَنعَة: المجتمع، والدولة، والحكومة في الأقطار العربية التي تتعرض كلها سوية لأصعب اختبار في تاريخها الحديث والمعاصر، فلاتزال هناك ضبابية في تحديد مفهوم كل منها بسبب ما يجابه العلوم الاجتماعية في واقعنا من «أعراض العقلية المتخلفة» والتي طالما تم صرف النظر عن تشخيصها ومعالجتها، بسبب انشغال النخب السياسية والفكرية باللحاق المتسرّع بركب أوهام الحداثة والعولمة واقتصاد السوق… إلخ.
ما يلفت النظر في هذا السياق تركيز الرئيس الأسد في حديثه بالأمس مع وفد اتحاد المحامين العرب، تركيزاً مكرراً في لقاءات عديدة، ولاسيما مع المنظمات والأحزاب والنقابات، على الاهتمام بالمجتمع الذي تتهدده «أخطار محاولات طمس الهوية وضرب ثقافة الانتماء لدى الشعب العربي من أجل إضعافه وزعزعة إيمانه بقضاياه وبإمكاناته في الدفاع عن حقوقه»، مؤكداً سيادته على دور المنظمات والاتحادات الشعبية في صون المجتمعات وتوعيتها.
لا شك في أهمية هذا التركيز، وفي ضرورته. وحين إمعان النظر فيه واستلهامه تتداعى إلى الذهن، وتتوالد فيه أسئلة رديفة عن دور الدولة من جهة، والحكومة من جهة ثانية في هذه المهام.
وفي الواقع فإن الدولة القطرية العربية تعاني من إخفاق تاريخي معاصر في النهوض بهذه المهام، اقترن هذا الإخفاق بإخفاق الحكومات، والمجتمعات حتى وصلت الحال إلى ما نحن فيه كشعب عربي، وكأقطار أيضاً. ولهذا مظاهر وأسباب، منها:
– استمرار الخلط بين واجبات الفرد وحقوقه بين قطاعات الشعب، ما نجم عنه تفكير أغلبية الأفراد بالحقوق، قبل الواجبات، بل على حسابها، ولذلك تسود في اللقاءات مع المسؤولين في الحكومة والحزب الطروحات المطلبية كظاهرة صارت تاريخية، ويكون المسؤولون في أغلب الأحيان في حرج من رد المطالب «الحقوق» بالتوعية بالواجبات، فالمواطنة ليست حقوقاً فحسب، بل هي واجبات وطنية أولاً تصدر عن وعي، ويبدو أن هذا الفهم بحاجة إلى توعية لم يفلح بعض هؤلاء المسؤولين في توضيحها وإقناع الناس بضرورتها.
– لأسباب عديدة لم توفّق الحكومات بإقناع المجتمع أن مَنَعة البُنى الفوقية «الوعي والالتزام» أساس نجاح تشييد البُنى التحتية «الخدمات»، ولطالما شعر المسؤول بنفسه مرتبكاً أمام مطالبة الكوادر بمسؤوليتهم الفردية عن تنفيذ الخطط وتحسين الإنتاج وزيادته ومكافحة الهدر والفساد والخلل الإداري… ما دفع الأفراد إلى الظن أن هكذا أمور ليست من واجبهم، بل هي محصورة بالإدارة الحكومية التي هي محط شك في أغلب الأحيان..، ما يضعف الحالة الوطنية.
– تقادم الزمن الذي اعتبر فيه في كثير من الأحيان مفهوم الدولة في المجتمعات العربية غير محترم وغير مُهاب، وذلك لعدة أسباب، منها: خلط مفهوم الدولة «الوطن» بمفهوم الحكومة. ومنها تطاول السنين التي عانت منها المجتمعات العربية من الاستعمار القديم والحديث والجديد، وأثر هذه المعاناة على مفهوم الدولة حتى شاع ترداد «شعرة من ذيل الخنزير مكسب».
– الأثر السلبي لغياب نسق فكري استراتيجي في العلوم السياسية والاجتماعية، في التربية والتعليم يؤسس لأهمية مفهوم الدولة الوطنية، فغلب تعوّد الناس على «دولة الرعاية» واستمر تأكيدهم على الرعاية على حساب المبادرات الفردية والاجتماعية الفاعلة وطنياً، ما انعكس سلباً على مَنَعة الدولة والمجتمع معاً، وعلى تحقيق المشروع الوطني المنشود.
مع الإشارة إلى أسباب إعلاء المفكرين أمثال هوبز وهيغل من شأن الدولة، وبالمقابل إعلان أمثال جون لوك، وروسو، وغرامشي من شأن المجتمع المدني.
هذا بمجمله أدى إلى خلل في الدولة، وفي المجتمع ظهرت مؤشراته، ثم منعكساته الخطيرة على الدول والشعوب سويّة في أوروبا الشرقية، والدول العربية، وأمريكا الجنوبية.
ومثل هذا الخلل إذا استمر يصعُب معه على الحكومة، أي حكومة، تنفيذ برامجها الوطنية التي من شروط نجاحها وجود وعي جمعي واجتماعي مقترن، بل مستند إلى شعور بـ «هوية وطنية جامعة وموحِّدة»، بعيداً عن الانتماءات الهشّة التي تطاول الزمن على هشاشتها بسبب التركة المثقلة لتراث يعج بـ «القراءات المريضة»، وبسبب الاستهداف المستدام من الخارج.
في هكذا واقع لا يكون الاستئناس بتجارب الدول الأخرى، ولا تغيير الأشخاص المستمر في الحكومة مجدياً للدولة وللمجتمع، لأن التغيير المنشود هو في الذهنية، وفي السلوك، وفي عدم الاتكاء الشديد للحكومة وللمجتمع على الدولة، فمفهوم الدولة مأزوم في العالم الحديث.
فهل مَنعة الدولة مسؤولية الشعب بمنظماته ونقاباته وأحزابه وحدها؟ وهل هذه المَنعة واردة في برامج الحكومة التي طالما أثقلها الشعور بأنها نتاج «دولة الرعاية» التي يتطلع إليها المهمّشون، أو الذين يضعون أنفسهم طوعاً على الهامش؟.
ولا ضير في أن تكون العلاقة والمصالح عضوية وجدلية في آن واحد بين الدولة، والشعب، والحكومة من حيث الحرية والالتزام، و من حيث الحقوق والواجبات. فبناء المجتمعات القوية والحديثة التي تعزز الدولة يتطلب مثل هذه العلاقة.