بقلم: د. عبد اللطيف عمران
تستدعي تطورات الحياة المتجددة، والأحداث المتتابعة والمتصاعدة، كثيراً من المفردات والمفاهيم والدلالات التي تحتاج إلى اشتقاق، وتوليد، وتوظيف أسماء ومسميات هي بمثابة “علامات” تُعرف، وتعرّف بها. وهكذا فالجديد في الحياة العلمية والاجتماعية والسياسية يفرض التعامل مع تلك المفاهيم والدلالات على أنها مصطلحات يجب إنتاجها، لا استيرادها.
لكن إنتاج المصطلح مسألة بالغة الأهمية، والضرورة، والصعوبة، وتقتضي الاضطلاع ليس بـ “نظرية المعرفة” العامة فقط بل بحاجة الجماعة التي يتطلّب واقعها اشتقاق المصطلح، وتوظيفه، وفي حال كحالنا نقول: استثماره وطنياً قبل استثماره معرفياً، وأن يكون هدفاً، قبل أن يكون شعاراً.
في مسألة الإنتاج، لا الاستيراد، هذه تواجهنا مسألة إمكانية “الاستقلالية” المعرفية والمنهجية، وذلك وهمٌ يجب ألّا نقع فيه، فننتج مصطلحات ذاتية منقطعة عن السياق العام التاريخي والواقعي، وعن المعرفة والمصلحة الجمعيّة، فلا يمكن القبول باستيراد مصطلحات تخص واقعنا، لأننا نحن المعنيون بذلك لا غيرنا، ورغم أن مسألة إنتاج واستقلالية “مصطلحاتنا” ليست سهلة، إلّا أنها تمهيد للتفاعل الناجح مع البعدين: المعرفي، والوظيفي للمصطلح.
ولربما من هذا المنطلق بادر الرئيس الأسد الرفيق الأمين العام للحزب الأسبوع الماضي في 16/7/2019 إلى تداول الرأي في هذا الأمر في ندوة حوارية مع الشباب متخيراً مدخلين للبحث في مسألة المصطلح: مدخل الحوار – تخيّر فئة الشباب. ولهذا دلالاته، ولا سيما حين أكد سيادته إثر الحوار على “ضرورة الانتقال في مسألة المصطلح من التفاعل إلى الإنتاج، وذلك بالكفّ عن مجرد طرح الآراء المتناقضة المتنوّعة، دون التوصل إلى نتائج مجدية إزاء مختلف المصطلحات المتداولة”.
وإذا كانت تطورات الحياة الجديدة تستدعي الانتباه إلى مسألة المصطلحات، فكيف تكون الحال مع وقائع الحياة التي نعيشها خلال الحرب على سورية؟ حيث تم ابتداع، واستثمار، وتوظيف أسوأ المفردات والتراكيب لتكون بمثابة اصطلاحات تفجيرية تفتيتية مضادة لوعي الشعب وهويته، وقضاياه ومصالحه، من مثل: الفوضى البنّاءة، فمتى كانت الفوضى بنّاءة؟ ولا سيما في مجتمعات كمجتمعاتنا أول ما تحتاج إليه النظام والتنظيم، وهكذا الأمر مع: الربيع العربي – المشهد الاحتجاجي – النصرة – داعش – جيش الإسلام …. إلخ.
هذا في الميدان، وأما في السياسة والإعلام فالمسألة مهمّة، بل هامّة أيضاً، نحتاج معها إلى الضبط والتوفيق بين الحياة العلمية المعرفية من جهة والحياة الوطنية من جهة ثانية، ما يتطلب التركيز على مفردات الخطاب التي سيستدعيها ويفرزها المسار السياسي لاحقاً، وخاصة التدقيق في المصطلحات التي قد تُحشر اعتباطياً في النصوص والأدبيات القادمة إلينا بأثر مرجعي أممي أو إقليمي، هذا يتطلب ألا نستسلم أمام المنهج التوافقي التكاملي كتخيّر مثلاً الأدبيات والمفردات التي استُخدمت تحت عنوان “تكامل العروبة والإسلام”، فلا ضير، والحالة هذه، أن نفكر في جدوى المنهج الجدلي: فنطرح مع هذا التكامل جدلية مقابلة يفرضها استخدام: “المواطنة”، وكذلك “العلمانية”… وهكذا بالحوار يكون الجدل فاعلاً ومجدياً ويؤدي إلى تكامل راسخ، ولا سيما إذا عدنا في هذه المسألة إلى تعريف دستور الحزب للعروبة، وكذلك إلى الرؤى التي قدمها الرفيق بشار الأسد الأمين العام للحزب في المسألة نفسها في مناسبات عديدة.
وفي عامة الأحوال تعاني اليوم المجتمعات العربية، والثقافة العربية من غياب الضبط العلمي للمصطلح، وما يتصل بذلك وينتج عنه من فوضى معرفية، وخروج عن الإطار المنهجي للعمل وللفكر.
في هذا السياق تبادر منظماتنا الشعبية ولا سيما الطلبة والشباب، ونقاباتنا المهنية، وكذلك أحزابنا الوطنية التقدمية وخاصة حزب البعث العربي الاشتراكي إلى توسيع دائرة المشاركة والتفاعل مع مثل هذه القضايا بالحوار والمنتديات والأبحاث التي تعم مختلف أرجاء البلاد، وكافة قطاعات الحياة فيها.
وعلى العموم يتبادر إلى الذهن أن إتقان مسألة المصطلحات والاهتمام بها يحتاجان إلى مثاقفة وتغريب، على أن علم المصطلح كما يرى البعض علم حديث ومعاصر ومقترن بالترجمة، وعن الغربيين تحديداً، وهذا ليس بصحيح، كأن يقول البعض هناك ثلاث مدارس مصطلحيّة: براغ – فيينا – الاتحاد السوفييتي السابق – وربما لهذا السبب دعا السيد الرئيس الى الانتقال هنا من التفاعل إلى الإنتاج -.
والواقع أن أسلافنا بادروا إلى الترجمة والمصطلحات منذ القرن الثاني للهجرة، ولعلنا نجد بعض ضالتنا هنا في كتاب “مفتاح العلوم” للخوارزمي المتوفي 387 هـ، وقبله بأكثر من قرن الجاحظ ت 255 هـ الذي أوضح أن “العرب هم الذين تخيّروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، واشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم “اصطلحوا” على تسمية مالم يكن له في لغتهم اسم، فصاروا في ذلك قدوة لكل تابع”.
فهل نعمل على أن يكون المصطلح كـ “سفينة نوح” في الديانات الثلاث، أو نعمل على ألّا يكون مثلها؟ وهي تحمل من كل زوجين “اثنين” من المؤمنين والحيوانات، تحملهم إلى النجاة. إلى الوجود والفعل والعطاء. وهل يمكن أن تكون السفينة، والطوفان، والجودي مصطلحات؟… وهكذا.