كتب: أيمن قحف
بعد أن انتهت فعاليات اليوم الأول من زيارة السيد الرئيس بشار الأسد إلى اسطنبول يوم السبت الماضي، قمت وبعض الزملاء بجولة في شارع "الاستقلال الشهير باسطنبول".
على امتداد الشارع بمسافة أكثر من /3/ كيلو مترات يحتشد –وبدون مبالغة- مئات الآلاف من البشر حتى لا تكاد تجد موطئ قدم، وجوه من كل الأشكال والأجناس والألوان يعبرون هذا الشارع، ما هي القصة..؟ إنه موسم السياحة في تباشيره الأولى، وربما أنّ مساء السبت يسبق العطلة الأسبوعية حيث يقف الناس للتنزه والتسوق.
غادرت إلى جينيف –والتي لها حديث آخر- حتى يوم الخميس حيث عدت ثانية إلى اسطنبول وتجولت سائحاً في شوارعها وتأكدت أن الأمر ليس ازدحام مساء السبت للمواطنين الأتراك، بل هي حركة سياحة نشطة ممتدة على مدار العام.
عندما أبلغني وكيل السياحة عن مدى صعوبة تأمين غرفة لائقة في فنادق اسطنبول ولاسيما منطقة التقسيم ظننته يبالغ كي يشعرني بأهمية ما قام به، ولكن عندما اعتذر مني واضطررت "لتدبير رأسي" عرفت أن الفنادق فعلاً ممتلئة، كذلك المطاعم والشوارع والأسواق، بل حتى مطاري اسطنبول أتاتورك وصبيحة اللذين مررت بهما أيضاً كان الازدحام فيهما كبيراً جداً من وإلى كل أنحاء العالم.
أزور تركيا كل عام مرة أو أكثر ، وبالتأكيد لست ضيف وزارة السياحة التركية في أي وقت ، ولكن أحاول أن أنقل الصورة بمقدار ما أحب لبلدي أن يكون ...
يتحسس المسؤولون لدينا عندما نقارن أنفسنا بأوروبا وأمريكا ولكن ماذا عن تركيا التي كنا قبل أقلّ من عشرين عاماً نسبقها بركب التطور..؟!
ما فعلته تركيا في مجال السياحة يشبه المعجزة، فقد أصبحت من القوى الخمس الكبرى سياحياً في العالم، أمنت التسويق المحترف والبنى التحتية المطلوبة وتناغم أداء مسؤوليها وكل الجهات المعنية بإنجاح السياحة ليقدموا بلدهم بأجمل صورة، وفي كل بلد زرته وجدت تسويقاً مكلفاً ومتقناً لتركيا ، ووجدت الخطوط التركية حاضرة بقوة في العواصم والمدن الكبرى ..
الأمر ليس مشاركات في المعارض السياحية ووفوداً تجوب أرجاء المعمورة، ولا أسواق سياحية نستجدي فيها المستثمرين ليقيموا المشاريع، الأمر يحتاج إلى نقاش وطني وقناعة من الحكومة والإدارات المختلفة حتى أصغر مواطن، ليعرفوا أن مستقبل البلد يعتمد بشكل كبير على السياحة.
اسطنبول، شأنها شأن عشرات المدن التركية لا تنام وليس لديها موسم سياحي واحد بل معظمها يستقبل السياح على مدار العام.
نظرت في وجوههم في شارع "الاستقلال" وعند البحر تحت الجسر المعلق، وفي قصر يلدز، وفي السهرات الليلية في شوارع التقسيم، وفي المطار في قاعة المغادرة، رأيت الجميع سعداء... فقد كانت زيارة رائعة، وحصلوا على متعة تفوق ما أنفقوه...
هناك أكثر من 26 مليون سائح زارة تركيا العام الماضي من بينهم حوالي مليون عربي وهناك ارتفاع في السياحة العربية 30% عن العام الذي سبقه .. وبعائد متوقع يصل إلى 30 مليار دولار سنوياً ..
"إنهم سيّاح حقيقيون"، ليسوا تجار "شنطة" أو عابري سبيل، أو مسافري الترانزيت، وعندما تعلن تركيا أرقام السياح فهم سياح "بكل معنى الكلمة".
بل وحتى الأزمة السريعة التي أحدثتها السحب البركانية عالجتها الحكومة التركية بسرعة وكفاءة رائعة ، وكما أبلغني رجل السياحة العتيق نشأت صناديقي اليوم أن الحكومة التركية أمنت ومجاناً باصات وقطارات من وإلى مختلف أنحاء أوروبا لمساعدة المسافرين العالقين والبقية أمنت لهم أفضل خدمات لحين انتهاء الأزمة !
أثناء فعاليات سوق الاستثمار السياحي الذي أقيم منذ أسابيع في دمشق شعرت ببعض التفاؤل، ولكن عندما شاهدت اسطنبول أحسست بحجم المسافة التي تفصلنا عن اعتبارنا "مقصداً سياحيا"، لا مطاراتنا قادرة من حيث الحجم أو نوعية الخدمة على تحقيق الانتقال، ولا شركات الطيران لدينا تعطينا بارقة أمل، ولا حتى خدماتنا السياحية في الفنادق والمطاعم، و الأماكن السياحية المشهورة تثير لدينا حاسة التفاؤل.
الوجوه التي تستقبل السائح في الطائرة والمطار والتكسي والفندق والأسواق كلها عوامل منفرة، وحده المواطن السوري البسيط يشعر السائح بالرضا مثله مثل الأماكن الأثرية التي تعرف بصمتها كيف تستقبل السائح الذي لأجلها يتحمل الكثير من "الغلاظات".
يبذل وزير سياحتنا الكثير من الجهد، لكنه أولاً وأخيراً لم يكن أبداً عاملاً في قطاع السياحة كي يعرف بدقة متطلباتها وكيفية قيادة هذا القطاع، لا يحتاج تقديم صحن حمص لذيذ إلى "دكتوراه" في الهندسة، بل يحتاج إلى "شيف" يتقن عمله و "مضيف" يعرف كيف يقدمه للزبون مع ابتسامة، كما لا يحتاج المستثمر إلى أسواق استثمار ليقيم المشروع، بل إلى بيئة سياحية تشعره أن عمله سيكون رابحاً.
لدي الكثير لأقوله ولكن أختصر لأقول: ما دمنا اخترنا العلاقة الاستراتيجية مع تركيا وأعجبنا النموذج التركي فلنتعلم منهم كيف نتقن صناعة السياحة بعيداً عن مظلة البيروقراطية والمجلس الأعلى للسياحة، وموظفي الوزارة الذين يعرفون المعالم السياحية في كل العالم، وأتحدى إن كانوا يعرفون معظم المواقع السياحية والأثرية في بلدهم.