دمشق- د.رشا سيروب
قد يُدهَش البعض من عنوان المقالة، جميعنا يسمع ويستخدم مصطلح ريادي الأعمال لكن أن تسبغ هذه الصفة للحكومة!!!
من الشائع والمعروف أن الريادة هي سمة ملازمة لقطاع الأعمال الخاص ولرجال وسيدات الأعمال، لكن أن توصف حكومة بالريادة فهو أمر غير شائع، خاصة أن مفهوم الريادة يعني الابتكار والإبداع بعيداً عن الروتين والنمطية في استخدام الأدوات والوسائل التي تعالج وتذلل الصعاب.
يُعد الاقتصادي الفرنسي جان باتيست ساي، (الريادي أو منظم الأعمال) في عالم الاقتصاد، ويقول: (إن الريادي هو من ينقل الموارد الاقتصادية من مستوى أقل إلى مستوى أعلى من الإنتاجية والعائد)، لكن لا يمكن القيام بذلك باستخدام الموارد نفسها بالطريقة نفسها، وهنا أستشهد بأحد أقوال ألبرت آينشتاين-بتصرف- (اللامبدع: هو من يفعل الشيء نفسه مراراً وتكراراً بالطريقة نفسها ويتوقع نتيجة مختلفة)، وبما أن الريادي يستطيع أن يحقق عائدية وإنتاجية أعلى باستخدام الموارد الاقتصادية نفسها لكن بطرق وأدوات جديدة، هذا يعني أنه عن طريق الريادة نستطيع تحقيق نتائج مختلفة بالإمكانات ذاتها.
الآن وبعد مرور أكثر من سبع سنوات على الأزمة، وبعد مضي أكثر من عشرة أعوام على اقتصاد السوق الاجتماعي، وبعد مضي ما يقارب 8 سنوات على وضع مسودة الخطة الخمسية الحادية عشرة، ما زالت السياسات الاقتصادية والطروحات الحكومية هي ذاتها (غير إبداعية- غير ريادية)، ما زالت إشكاليات الحكومات المتعاقبة هي ذاتها: عجز في الموزانة العامة للدولة، رفع الدعم وتوزيعه على مستحقيه، التشاركية، تشجيع الاستثمار الخاص وغيرها من الإشكاليات الثابتة غير المتغيرة.
فالسؤال: هل ماتت الحكومة في سورية؟
لا يمكن القول إن الحكومة ماتت، فالحكومة لا تتكون من فرد أو تتمثل في شخص أو مجموعة أشخاص. إلا أن حكومتنا غارقة في مشكلات عميقة اليوم، وما زالت الحكومة تنفق الكثير من الأموال وتضع العديد من الخطط لكن دون جدوى أو فعالية، ومن ذلك:
- الحكومة أنفقت وتنفق مليارات الليرات السورية على التعليم والصحة و...، لكن التعليم والصحة يزدادان سوءاً يوماً بعد يوم.
- الحكومة فرضت وما زالت تفرض العديد من القوانين والضوابط لحماية الاقتصاد، لكن الاقتصاد يتدهور يوماً بعد يوم.
- الحكومة تندد وتهدد بالمساس بلقمة عيش المواطن، لكن الوضع المعاشي يصبح أكثر سوءاً وتدهوراً ساعة بعد ساعة.
إذاً هل الإشكالية في الحكومة؟
الإشكالية ليست في الحكومة، الإشكالية ليست فيما تريد أن تعمله الحكومة بل في الطرق التي تعمل بها، لقد أفرزت الأزمة الراهنة ظروفاً متغيرة وقطاعات مختلفة لم تتعامل معها مسبقاً، والاقتصاد يتعرض اليوم لتغير كبير ويخلق بشكل متواصل مشكلات جديدة هائلة وفرصاً جديدة هائلة، لذلك نحن بحاجة إلى إعادة اختراع الحكومة لنفسها والنظر إلى الأمور بعيون جديدة، بحاجة إلى حكومة ريادية قادرة على تحقيق عائد اجتماعي إيجابي من خلال التدخلات المستهدفة.
فالحكومة هي آلية صنع واتخاذ قرارات مجتمعية تسهم في بناء دولة تنموية قادرة على معالجة إخفاقات السوق والاختلالات الاجتماعية والجغرافية والقطاعية. وهذا يجيبنا على عنوان المقال: الحكومة الريادية: قرار أم خيار!!؟
الحكومة الريادية قرار.. نحن بأمس الحاجة إلى حكومة ريادية، بحاجة إلى ريادية الحكومة في معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية بتحقيق عائدية وإنتاجية أعلى باستخدام الموارد المتاحة.
من قال إنه لا يمكن للإدارة الحكومية استخدام الموارد المتاحة (دون تخفيض الإنفاق العام أو فرض ضرائب ورسوم جديدة) بفعالية وكفاءة أعلى!!.... لكن هذا مرهون بضرورة أن تتغير الحكومة، ولا أقصد المعنى الحرفي للتغيير، لكن هذا رد على من يقول إنه لا يمكن للحكومة أن تتغير أو تتطور. لقد تغير دور الدولة على مر العصور، لم يكن دور الدولة ثابتاً في الاقتصاد، بل تطور حسب الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى البيئية؛ وتبلور هذا الدور بين سياسة الحرية الاقتصادية وابتعاد الدولة عن الاقتصاد، وسياسة التدخل الحكومي الداعم لحرية رأس المال، والتدخل الحكومي المؤيد للاشتراكية والرافض للرأسمالية.
فالإدارة الحكومية- مثل إدارة القطاع الخاص- قادرة على التكيف مع روح العصر وإعادة اختراع نفسها (مثل الرأسمالية) من حين إلى حين، الحكومة يمكن أن تتغير وواجباتها يجب أن تتطور. وبما أن الإدارة الحكومية مطالبة بالتطور في كل وقت، فإننا أحوج ما نكون إلى إعادة تشكيل نفسها واختراع حكومة جديدة في هذا الوقت بالذات.
إلا أن خلق حكومة ريادية يحتاج إلى منهجية علمية وإطار تحليلي للواقع الراهن، فالحقيقة المحزنة في سورية هي أن معظم المشاركين في رسم السياسات الاقتصادية سواء من صناع القرار الحكومي أو الخبراء الاقتصاديين المستقلين أو المحللين مصنَّفين مسبقاً (إما اشتراكيين أو رأسماليين) وبذلك كل المقترحات يجري تصنيفها وفق ثنائية لا ثالث لهما (إما اشتراكي أو رأسمالي)، بناء عليه تتعرض كل الطروحات والأفكار والمقترحات للانتقاد والتشويه المسبق من قبل الفريق الآخر، أو للقبول والدعم في حال كانت منسجمة مع توجهات هذا الفريق، مع احتمالية شبه معدومة لمناقشة هذه السياسات والطروحات من وجهة نظر علمية وموضوعية، وبالتالي تتخذ القرارات دون دراسة حقيقتها ومنعكساتها الاقتصادية والاجتماعية.
أضف إلى ذلك أن الحكومة ما زالت تنظر إلى حلول المشكلات الاقتصادية أيضاً من خلال الثنائية المعهودة (قطاع عام أو قطاع خاص) و(اشتراكي أو رأسمالي)، ويغيب عن ذهنها (أو تتجاهل)الخيار الثالث الذي يقول بأن عملية صنع السياسات الاقتصادية يحتاج إلى تعاون وثيق وتنسيق بين القطاعين العام والخاص مع عدم إغفال مشاركة القطاع الثالث (منظمات المجتمع المدني والمبادرات التطوعية)، مع الإبقاء على مسافة معقولة في العلاقة بين الحكومة وقطاع الأعمال، فلا يجوز لها أن تقترب بشدة من شركات القطاع الخاص إلى الحد الذي يجعلها تنفذ رغبات هذه الشركات، ولا أن تنتهي بها الحال على طرف النقيض الآخر إلى توجيه الأوامر إليها.
إذاً الحكومة الريادية (قرار وليست خياراً).. فالحكومة الريادية قادرة على تأدية مهامّها بكفاءة عالية وقدرة إنتاجية أفضل مما يمكن أن تقوم به الشركات، وهذا لا يتأتى إلا إذا تمكنت من استثمار ما لديها من مواردها لتحقيق الهدف الأسمى المتمثل في العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين.
والحكومة الريادية هي حكومة قادرة على خلق منافسة موجهة ومخططة بين مختلف القطاعات العام والخاص ومنظمات المجتمع المدني(لكن بتدخل حكومي)، لأن الأسواق غير المحكومة وغير المنظمة ستؤدي حكماً إلى إضرار بالعدالة الاجتماعية؛ والحقيقة أنه لا توجد سوق حرة تماماً، إذا كنا نقصد بذلك سوقاً خالية من التدخل الحكومي، والسوق الوحيدة الحرة هي السوق السوداء والحرية المطلقة تعني الفوضى.
ليس غرضنا انتقاد الحكومة ولكن تجديدها، نحن لا نقلل من عمق المشكلات الاقتصادية وخطورة منعكساتها، إلا أننا نعتقد أنه يمكن حل بعض هذه المشكلات أو التقليل من منعكساتها، فدائماً يوجد حلول، لكن يتطلب ذلك رؤية جديدة للحكومة، ذلك أن حكومتنا عالقة بمتاعب عميقة موروثة من حكومات سابقة، والخيار الوحيد المتبقي هو إعادة تشكيل الحكومة بنفسها من خلال ريادية طروحاتها، فالحكومة الريادية قرار وليست خياراً.