لم يعد قول «الحالة تعبانة يا ليلى» يكفي للتعبير عن أزمة المواطن المعيشية، الذي يقف بين فكي كماشة الراتب القزم وغلاء فاحش قصم ظهره، وجعله غير محمي وإن تنطح مسؤولو «التجارة الداخلية» بادعاء حمايته من جشع التجار، الذين باتوا ملوك السوق بلا منازع، في حين بقي الفقراء وذوو الدخل المحدود «ينازعون» الأمرين ويتحملون أخطاء وتقصير مسؤولي الشأن الرفيع، الذين لم يتركوا فرصة أو مناسبة، لنفي إمكانية حصول زيادة رواتب، التي بررت في أكثر من منبر بالتركيز على زيادة الإنتاج، فزادت أرباح التجار جشعاً وتهريباً ضريبياً وقلت قروش المواطن وخاصة في ظل عجز «التموين» عن استثمار هبوط سعر الصرف في تخفيض الأسعار، فوضعوا على جروحهم ملحاً، متأملين الفرج لعل غمة الهموم المعيشية تزول من غامض علمه، إلى أن قدم مجلس الشعب مقترحه في زيادة الرواتب، تاركاً الأمر في عهدة الحكومة، ما أعاد إحياء الأمل في النفوس، وخاصة أن وزير المالية عدل عن تصريحاته السابقة ليشير إلى أن زيادة الرواتب ليست غائبة عن الحكومة، فهل يمكن للحكومة فعلا ًالقيام باتخاذ هذه الخطوة الضرورية لتحسين الحياة المعيشية، وهل فعلاً ستؤدي إلى حصول تضخم كما يقال، وكيف يمكن لجم هذا المارد، منعاً لتجريد أي زيادة مستقبلية من مضمونها.
نفضل تخفيض الأسعار!
لا شك في أن زيادة الرواتب، رغم محاولة التخويف من اتخاذ هذه الخطوة نظراً لقيام التجار في كل مرة من تجريدها من محتواها برفع الأسعار، باتت مطلباً أساسياً لدى شريحة الدخل المحدود وخاصة الموظفين، الذين لم يعد يكفيهم راتبهم سوى أيام قليلة من الشهر، إلا أنه رغم ذلك، وأثناء رصد آراء بعض المواطنين أنهم يفضلون تخفيض الأسعار على زيادة رواتب تبقى وهمية إذا لم يتم ضبط الأسواق ومنع التجار من زيادة الأسعار، وهنا تقول سوسن مرعي السيدة الثلاثينية موظفة: راتبي وراتب زوجي لا يصلان إلى 80 ألف ليرة، بينما مصروف عائلتي يتجاوز 125 ألف ليرة، نحاول قدر الإمكان تغطيتها من خلال إدارة ذكية لاحتياجات البيت عبر الاستغناء عن بعض الحاجات، إضافة إلى الركون إلى منطق الجمعيات، لكن ذلك يشكل ضغطاً كبيراً، لذا بات مطلب زيادة الرواتب ملحاً، لكن رغم ذلك أفضل تخفيض الأسعار، فماذا أستفيد من هذه الزيادة إذا ذهبت إلى التجار، حيث ستخسر الدولة والمواطن ويستفيد التاجر.
يد من حديد
ورغم منطقية ما تقوله إلا أن محسن وسوف موظف أيضاً شدّد على إمكانية اتخاذ خطوة زيادة الرواتب مع تخفيض الأسعار، فما الذي يحول دون تحقيق ذلك بشكل يعود بالنفع على أصحاب الدخل المحدود الذين تحملوا وصبروا سبع سنوات على تقصير وزارة التجارة الداخلية التي كانت تتحجج بالتجار لعدم إمكانية تخفيض الأسعار بسبب ارتفاع سعر الصرف، الذي انخفض ولم تستطع القيام بمهامها كما يجب، ما يتوجب محاسبة المقصرين منهم لأن هذا التقصير سينعكس سلباً على الكثير من المواطنين المعدمين وإيجاباً على التجار والفاسدين من الوزارة، توافقه السيدة الخمسينية حسنى اليوسف، موظفة، في رأيه مع تشديدها على أهمية تخفيض الأسعار إلى حدود مقبولة وليس مجرد تسكين فقط يدفع ضريبتها المواطن أضعافاً كما حصل مع المتة، فاليوم الأسواق منفلتة، وعند حصول أي زيادة، وإن كانت غير متوقعة يتوجب الضرب بيد من حديد على المخالفين.
تحسين مستوى المعيشة
واقع معيشة المواطنين الصعبة عبّر عنه عمر حورية عضو مكتب تنفيذي وأمين الشؤون الاقتصادية في الاتحاد العام للعمال، الذي أكد وجود فرق كبير بين الراتب وأسعار السلع، فالأسرة الواحدة تحتاج لتلبية نفقاتها، حسب الدراسات الاقتصادية، قرابة 250 ألف ليرة، بينما لا تزال بعض الرواتب تدور في فلك 25 ألفاً، مستغرباً عدم التفكير بكيفية تأمين الأسرة هذا الفرق الكبير، لافتاً إلى أن بعض المواطنين بعد دفع إيجار البيت والتنقل يعيش فقط بـ9 آلاف، في حين يعيش مواطن آخر بـ500 ألف ليرة، مستغرباً دفع ذوي الدخل المحدود 22 مليار ليرة خلال العام الفائت ضرائب على الدخل، بينما التجار والصناعيون لم يدفعوا 33 مليار ليرة، مشدداً على أنه من خلال معالجة واقع التهرب الضريبي مع توجيه قيمة بعض المشاريع غير الضرورية في هذه المرحلة إلى تحسين واقع المواطنين المعيشي، الذي يطالب اتحاد العمال في تحقيقه وليس فقط زيادة رواتب، التي يؤكد أنها طرحت أكثر من مرة، واليوم بات ضرورة ملحة وخاصة بعد تحسن الوضع الأمني والاقتصادي من جراء عودة معامل الغاز والنفط، فاليوم الحكومة تقول بضرورة دعم الإنتاج ولكن أليس العامل جزءاً من العملية الإنتاجية، هل يعقل أن ندعم الآلة ولا ندعم الإنسان الذي يشغلها، ليعود ويطالب بعدم التركيز على الزيادة فقط وإنما تحسين الوضع المعيشي إجمالاً من خلال تحسين خدمات النقل والصحة والتعليم بشكل يخفف ضغوطاً معيشية على المواطن ليكون الراتب لتأمين الحاجات الأساسية فقط، علماً أن الحكومة أكدت مراراً أنها تعمل على تحسين معيشة المواطن لكن الشارع لا يلمس أي شيء على الأرض.
آليات خاطئة
وأشار حورية إلى وجود مشكلة أساساً في آليات التفكير في زيادة الرواتب لدى الجهات الحكومية، وخاصة أنها غالباً ما تموّل من خلال زيادة الأسعار، في حين مثلاً يمكن زيادة الحوافز للعمال، كعمال التبغ، الذي لحظ زيادة في الإنتاجية بعد تأمين النقل والحوافز، وتالياً إذا كانت الحكومة تريد زيادة الإنتاج لا بد من التفكير بزيادة الرواتب، مشيراً إلى أن المسؤولية الاجتماعية للتجار وقطاع الأعمال عموماً عبر تأمين شبكات حماية مجتمعية تساهم في مساعدة المواطنين وليس فقط تحصيل الأرباح وتكديس الأموال.
ليس خياراً!
رغم اتفاق أغلب الباحثين الاقتصاديين على ضرورة القيام بزيادة الرواتب في هذه الفترة، إلا أن البعض منهم فضل الاتجاه نحو خيار تخفيض الأسعار في ظل تجارب سيئة سابقة تسببت في امتصاص التجار لهذه الزيادة من دون تحصيل الموظفين أي فائدة منها، لكن د.مدين الضابط شدد على أن زيادة الرواتب ليست خياراً وإنما هي فرض بسبب انخفاض القدرة الشرائية وانخفاض الدخول التي تؤثر في المواطنين والاقتصاد إجمالاً، علماً أن الدستور ينص على هذه الزيادة كل فترة، ليشدد على أن زيادة الرواتب حتى تكون حقيقية يجب أن تسبقها
إجراءات محددة كضبط الأسعار مع وضع استراتيجية تدخلية سريعة وصحيحة من قبل وزارة التجارة الداخلية لمنع أي ارتفاعات غير مبررة في الأسواق، إضافة إلى إعادة هيكلة الوزارة نفسها مع مؤسساتها المترهلة عبر إحداث فرق عمل متخصصة مع وضع آليات تسعير ودراسة أرباح السلع وتحديد هوامش الأرباح ورقابة صارمة، والنقطة الأساسية نظام الفوترة، إذ لا يعقل أن يكون هناك سوق كبير ولا يوجد نظام فوترة، وخاصة في ظل وجود مشكلة في البيان الجمركي بسبب التهرب من الرسوم الجمركية، لافتاً إلى أن دراسة الأرباح تكون في ضوء معادلات الطلب والعرض عبر إجراء دراسة سعرية ضمن هوامش محددة وفي حال الخروج عنها تتوجب مساءلة التجار، الذين تتوجب مراقبة مستودعاتهم منعاً للتحكم في الأسواق.
قطاع جشع!
وضع الأسواق المتقلب يشير إلى وجود إشكالية كبيرة تسود قطاع الأعمال، والباحثين عن الربح دوماً، حسب د.الضابط، فاليوم سعر الصرف هبط ولم نشهد أي انخفاض في الأسعار، فأين الخسارة التي يتحدثون عنها، ولماذا لا يبادر التجار إلى تخفيض أسعار السلع بمثل السرعة التي كان يقوم بها برفع أسعاره عند ارتفاع سعر الدولار، مشيراً إلى أن قيامهم بتهديد الحكومة عن الامتناع عن العمل بسبب تخفيض الأسعار يعد رهاباً اقتصادياً، علماً أن هذا التخوف سببه ضعف الأدوات الحكومية على مدار سنوات طويلة على الأسواق، لتأتي الأزمة وتكشف عدم فعاليتها وخاصة في ظل ضعف التدخلات في الأسواق، وهنا لا بد من استراتيجيات وقرارات مدروسة محضرة بعناية مع إيجاد بدائل معينة، وهذا للأسف لم نره، فأغلب قرارات الحكومة لا ينفذ من قبل التجار، لذا لا بد من استراتيجية لضبط الأسواق تسهم في إظهار القيم الحقيقية للسلع والأرباح الصحيحة وليس الاحتكارية حيث تكون الزيادة حقيقية ولا يتم امتصاصها من قبل المحتكرين أو ما يسمى احتكار القلة، مشيراً إلى أنه لو كانت أسواقنا تنافسية لما ازدادت الأسعار بهذه الطريقة الجنونية التي لا تعكس معادلات العرض والطلب.
بانتظار سعر الصرف!
يفضل د. سنان ديب رئيس جمعية العلوم الاقتصادية في اللاذقية خيار تخفيض الأسعار على القيام بزيادة الرواتب حالياً أقله لحين انتظار سعر الصرف وتحولاته، فمعاودة الحديث عن زيادة الرواتب تعد نوعاً من حرف النظر عن تثبيت سعر الصرف مع إمكانية التمسك بهذا الخيار لاحقاً من أجل تحسين مستوى معيشة المواطنين، وخاصة عند إعادة النظر في أسعار الطاقة، فاليوم تحسين دخل المواطن بات ضرورة ملحة واستحقاقاً ويبقى الأسلوب خلافياً، لافتاً إلى أن الموازنة الجديدة لم تلحظ أي زيادة للأجور، وانخفاض سعر الصرف يحقق مكاسب للحكومة لكونهم سعروا الدولار بـ500 ليرة، لذا يشدد على أن أي زيادة لن تكون مجدية نظراً لعدم القدرة على ضبط التضخم الذي بلغ 1200%، والحل يكون بخفض الأسعار، لكن إن لم يسيروا بسعر الصرف كما يخطط له، تصبح الزيادة ضرورة مع ضبط وخفض الأسعار، مشدداً على أن هبوط سعر الصرف طبيعي لكن مصالح البعض هي من تدفع باتجاه انتقاد تخفيضه، علماً أنه نظراً لعدم إمكانية التموين على ضبط الأسعار وضعف إمكانات الحكومة نتيجة انعكاسات الحرب نوافق الرؤية مع الحكومة أن يكون العمل على خفض سعر الصرف بالتزامن مع تخفيض الأسعار، حيث تكون هذه النتيجة أفضل لتحسين مستوى المعيشة في ظل متوسط أجور 24 ألفاً ووجود حوالي 6 ملايين نازح،، ليشدد على أن الوقت الآن يجب أن يكون لتثبيت سعر الصرف بما ينعكس إيجاباً كمرحلة أولى نحو 350 ليرة مع عمل الوزارات على خفض الأسعار كمتابعة وضبط وتدخل وتوسيع باب التوريد لكسر الاحتكار واستمرار الحكومة في تخفيض بعض الأسعار لحين اتضاح الرؤية.
سياسة بديلة!
يحاول الدكتور ابراهيم ميده رئيس قسم المحاسبة في كلية الاقتصاد، الذي رفض في البداية التحدث عن زيادة الرواتب على اعتبار أن الجميع يطالب بها من دون وجود أي استجابة، ليؤكد وجود فجوة كبيرة بين الرواتب والأسعار، ولا يمكن لزيادة بسيطة ترميمها وإنما يتوجب أن تكون هناك زيادة حقيقية تعكس المستوى المعيشي للمواطن، لافتاً إلى أن المواطن لا ينتظر سياسات واستراتيجيات طويلة الأمد عبر دعم الإنتاج، الذي قد يؤدي إلى تخفيض الأسعار على المدى الطويل، لكن المواطن لا يستطيع الانتظار وقتاً أطول، فاليوم للأسف يقبض المواطن بالليرة ويشتري بالدولار، لافتاً إلى أن السياسة البديلة لزيادة الرواتب هي تخفيض الأسعار، الذي تعمل عليه الحكومة حالياً، لكن هل استطاعت التجارة الداخلية تخفيض الأسعار، فقد أخفقت خلال الفترة الماضية.
وأبدى د.ميده تخوفه من انخفاض الدولار المفاجئ بحدود 13% خلال فترة قصيرة، فهل هذا الانخفاض يعكس القيمة الحقيقية لليرة عبر تحسن الصناعة والإنتاج وحركة التصدير، لذا يخاف من حصول ارتفاعات مفاجئة تركت آثارها على السوق إذا لم يثبت سعر الصرف، ليشدد على ضرورة القيام بزيادة رواتب ملحة وضرورية مع المراقبة على الأسعار ودعم الإنتاج، إذا لا يوجد ما يمنع الحكومة من العمل على هذه المسارات الثلاثة، على أن تكون رقابة الأسواق رقابة للشاروما فقط، حيث يتوجب ضرب المحتكرين مع عقوبات مشددة حيث تنخفض الأسعار ولا يتم تقديم مبررات من التجار باتت معروفة كالقول إنهم اشتروا حينما كان الدولار مرتفعاً.
مصادر تمويل كثيرة!
تبرز مصادر كثيرة لتمويل زيادة الرواتب إن رغبت الحكومة، كما يؤكد د.ميده ولعل أبرزها تحصيل أموال العقارات المؤجرة والتهرب الضريبي، ليشدد على أن الحكومة غير عاجزة بأدواتها الكبيرة على إيجاد بدائل مناسبة لزيادة الرواتب .
بدوره لفت د.الضابط إلى إمكانية تأمين مصادر لتمويل هذه الزيادة حيث تكون زيادة حقيقية من خلال إدارة مجدية تعالج جوانب محددة وذلك من خلال التهرب الضريبي، فهل مثلاً نسب الأرباح واقعية، وهل يتم ربط تكاليف كبار المكلفين بأسعار البيع، لذا اليوم الأسعار في جهة والدوائر المالية في جهة، وتالياً لا توجد آلية لضبط التهرب الضريبي، كما أن إدارة الإنفاق تعاني خللاً وفساداً واضحاً، علماً أن جزءاً كبيراً من الإنفاق يتم تصديره بصورة غير صحيحة وخاصة الإنفاق الاستثماري، إضافة إلى اقتصاد الظل، حيث كان يشكل ما قبل الحرب ما بين 60-70% من الاقتصاد الرسمي،وقد ارتفع حتماً خلال الحرب بعد نشاط المشتغلين فيه، لذا يفترض إدارة هذا الاقتصاد وإعادته إلى دائرة الضوء بغية زيادة الحصيلة الضريبية، مشيراً إلى أن البلاد بدأت تتعافى من خلال عودة حقول النفط والغاز، وهذه موارد مهمة سترفد خزينة الدولة ويمكن من خلالها تمويل زيادة الرواتب، التي تعد جزءاً من إعادة إعمار سورية، مشيراً إلى أن انتصارات الجيش العربي السوري صنعت الانتصارات وإعادة الانتعاش للاقتصاد، فلماذا يتم الوقوف في وجهها ومنع استثمارها وخاصة لجهة تحسن سعر الليرة واستعادة قوتها؟.