سامي مروان مبيّض
أعلن موقع "حستور" الاميركي مؤخراً عن فتح أرشيفه الهائل من الأبحاث العِلمية مجاناً أمام الباحثين لكي يتمكنوا من العمل من منازلهم، نظراً لتفشي وباء الكورونا. يمكن للباحث تحميل 100 بحث يومياً من الآن وحتى تاريخ 31 كانون الأول 2020.
لم اتردد بمراجعة بعض الأبحاث المتعلقة بتاريخ سورية، وعددها 170 ألفاً، بعضها يعود إلى منتصف القرن السابع عشر. قد يبدو الرقم كبيراً للبعض، ولكنه ضئيل جداً بالمقارنة مع الأبحاث المصرية مثلاً، وعددها 413 ألف، والعراقية (220 ألف). أما عن إسرائيل، فهناك ما لا يقل عن 579 ألف بحث منشور في كبرى المجلات الجامعية، جميعها وضع بعد احتلال فلسطين سنة 1948. أي بمعدل ثمانية الأف بحث في السنة الواحدة.
أما عن المواضيع السورية، فالحصة الأكبر منها كانت عن تاريخ مدينتي دمشق وحلب، تليهم أبحاث قيمة عن مجتمع العشائر شرق الفرات، وعن مرحلة الإنقلابات العسكرية وصولاً إلى عملية السلام. ولكن وبالرغم من هذا التنوع في المواضيع، فأن الأبحاث السورية هي الأقل حجماً بين الأبحاث العربية كافة، علماً أننا من أقدم الشعوب على وجه الخليقة ولنا ماضي حافل بالإنجازات والإخفاقات معاً، يستحق أن يُدرس بإمعان.
فمن هو المسؤول عن هذا التقصير، الباحثين الأجانب أم نحن؟ في الجامعات الغربية قاعدة عِلمية رصينة تعود إلى عشرينيات القرن المنصرم، قوامها مبدأ: "النشر أو الهلاك" (Publish or Perish).
لا يمكن لأي استاذ جامعي أن يترفع ضمن الهيئة التدريسية قبل أن يُنجز عدد معين من الأبحاث العلمية المُحكمة والتي تقدم فكرة جديدة أو تطور نظرية علمية معينة. وفي بعض الأحيان لا يتم تجديد عقده لو أخفق في هذه المهمة الموكلة إليه.
هذا الأمر لا يُطبق في سورية طبعاً، بكل أسف، لا في الجامعات الحكومية أو الخاصة، وكل الأبحاث العلمية المنشورة محلياً في بلادنا عبارة عن مجهود شخصي من باحثين مجتهدين ومُدرسين، دون أي تكليف أو شرط أو حتى مكافئة مادية.
وهذه الجهود الفردية مقدسة طبعاً لانها تمت في ظروف مادية ونفسية واقتصادية صعبة للغاية...فكيف لشخص أن يُبدع في أبحاثه ويقدم ما هو جديد ومفيد وهو يصارع لأجل تامين لقمة العيش لنفسه ولأولاده؟ مع ذلك، نجد عدد كبير من الشخصيات العامة التي تظهر على شاشات التلفزيون السوري ويتم التعريف عليها بصفة "أكاديمي." ولكن "الأكاديمي" بحسب الأعراف الدولية، هو من يعمل في مجال "الأكاديميا،" وهو من يقوم بالبحث والكتابة والنشر بشكل دوري، ليس على مواقع التواصل الإجتماعي بل في المجلات العِلمية المُحكمة حصراً.
البروفيسور الراحل قسطنطين زريق كان "أكاديمياً" مرموقاً وكذلك العلامة الدكتور عبد الكريم رافق، ولهؤلاء أبحاث هامة في التاريخ نُشرت في كبرى الجامعات العالمية.
لم يُعرف أي منهما على نفسه بأنه "أكاديمي،" فهذا التعريف يخلو من أي مضمون حقيقي، مثله مثل "مُفكر" أو "محلل إستراتيجي" أو "محلل جيوسياسي." هذه مجرد القاب وليست مهن، والمهنة الحقيقية تكون إما "كاتب" أو "استاذ جامعي." وبالناسبة، ليس كل من وضع كتاباً يَصلح أن يكون "أكاديمياً،" فهناك كتب نشرت مؤخراً في سورية، لا تساوي قيمتها ثمن الورق الذي طبعت عليه ولا تنفع إلا للصرّ، نظراً لخفتها وسخافتها وافتقادها لأي منهجية بحثية.
هؤلاء "المؤلفين" و"الأكاديميين" برعوا في نشر مفهوم "ثقافة العناوين" وهو عبارة عن أخذ فكرة من هنا وخاطرة من هناك (معظمها من الفيسبوك) يتم دمجهم في عنوان عريض، يكون براق وجذاب، ولكن من دون أي محتوى حقيقي. الأكاديمي الحقيقي والمؤلف الحقيقي هو من يحترم عِلمه ونفسه، ولا يتكلم إلا في اختصاصه، مهما كان ضيقاً، دون التعريج على إختصاصات الغير. وهؤلاء يتحدثون بكل شيئ، إبتداء من الدين والسياسة والتاريخ، مروراً بالعلوم العسكرية وصولاً إلى الكورونا والدستور ونثرات الأمونيوم.