كان يستمع بشغف لحوارنا ونقاشنا عن الواقع الزراعي، والذي تمحور حول حياة الفلاح، وتحدياته، والإنتاج، والدعم المقدم له، والخسائر التي يُمنى بها في نهاية كل موسم، إضافة إلى الحديث عن الجهات الفاعلة على الساحة الزراعية، وفي مقدمتها وزارة الزراعة، والاتحاد العام للفلاحين، وكان متحمساً للمشاركة، وفتح دفتر ذكرياته، وهو الرجل السبعيني الذي يعشق الأرض، وقضى عمره في الزراعة، وطبعاً عندما بدأ بتقليب صفحات ذكرياته، كان الجميع في حالة إنصات، واستماع له، وهو يتحدث عن ثورة الثامن من آذار، وكيف كسروا قيود الإقطاع والبرجوازية من خلال ثورة العامل والفلاح التي رفعت شعار ” الأرض لمن يعمل بها”، وأصدرت المرسوم رقم /127/ لعام 1964 الذي تم بموجبه تأسيس الاتحاد العام للفلاحين لتنظيم وتوحيد الفلاحين في تنظيم شعبي واحد.
وبعد أكثر من ساعة من استغراقه في الماضي، وحديثه الغني بالذكريات والمواقف.. انشغلنا جميعاً في تفسير معالم الحيرة والدهشة التي ارتسمت على وجهه بمجرد سؤاله عن اتحاد الغرف الزراعية، حيث أكدت نظراته عدم امتلاكه أية معلومة، وهذا ما أربكه قليلاً، ولكن ذلك لم يؤثر على نبرة حديثة الواثقة بدور الاتحاد العام للفلاحين الذي عاصر بداية انطلاقته، وكان في رأيه الحاضنة الفلاحية التي كان يلجأ إليها دائماً، فحضور الاتحاد على امتداد الجغرافيا السورية بكل مؤسساته النقابية من روابط وجمعيات وتعاونيات ومراكز إرشاد، عزز امتلاك الفلاحين ناصية قضيتهم وزمام العمل والمبادرة، واستذكر “أبو مهنا” بعض المحطات الفلاحية، كالمؤتمر العام الرابع الاستثنائي للاتحاد الذي أكد فيه القائد المؤسس حافظ الأسد على دور الاتحاد العام للفلاحين عندما قال: «إن المؤتمر العام للفلاحين في سورية هو صاحب القرار في أي قانون يتعلق بالأرض، وإن كل قرار يتخذه المؤتمر العام لاتحاد الفلاحين، ويتعلق بالأرض، وبكل مواضيع الزراعة والإصلاح الزراعي سيصبح قانوناً نافذاً».
ولا شك في أن هذه الجلسة فتحت الباب واسعاً أمام العديد من التساؤلات الحاضرة بقوة الآن على الساحة الزراعية، وخاصة إشارات الاستفهام الباحثة في حقيقة المواجهة الدائرة بين الاتحاد العام للفلاحين، واتحاد الغرف الزراعية، وقانونية تمثيل كل جهة للفلاح السوري.
تشابه واضح
بعيداً عن معادلة الغالب والمغلوب، سنعمل على تقليب صفحات المذكرة الفلاحية التي تبيّن موقف الاتحاد العام للفلاحين من اتحاد الغرف الزراعية بشكل يوضح تماماً موقفها الرافض لمشروع التعديل المقدم من قبل الغرف الزراعية، ولأية محاولة فيها مساس، أو التفاف على مصالح الاتحاد العام للفلاحين، خاصة لجهة المحاولات المتكررة لتهديد علاقة المنظمة بالفلاحين التي ينظمها القانون /21/ لعام 1974، وذلك من خلال محاولة تعديل القانون الناظم لعمل اتحاد الغرف الزراعية الذي تغيب عنه الشرعية بحكم المادة /123/ والتي ألغت جميع الأحكام المخالفة بما فيها القانون /129/ لعام 1958 الناظم للغرف الزراعية بسبب الازدواجية في المهام، فقد نصت المادة /4/ منه على مساهمة الغرف الزراعية في تحقيق النهضة الزراعية، وتنمية القطاع الزراعي، وخدمة المنتسبين إليها، وتحسين وضعهم الاقتصادي والاجتماعي، ورفع مستوى معيشتهم، والدفاع عن مصالحهم وحقوقهم.
وفي المقابل تحمل فقرات المادة الخامسة من قانون التنظيم الفلاحي لعام 1974 الفقرات ذاتها والتي تتطابق مع المشروع المقترح لتعديل قانون الغرف الزراعية /129/، وخاصة ما يتعلق منها بتنظيم الفلاحين لتطوير الإنتاج الزراعي، وتحسين أحوال الفلاحين الاقتصادية والاجتماعية لتحقيق الثورة الزراعية، وإدخال الأساليب الحديثة في الزراعة، وتسويق الحاصلات الزراعية لصالحها ولصالح أعضائها.
رفض واضح
مذكرة الاتحاد العام للفلاحين، أكدت على أن محاولات الغرف الزراعية لتعديل القانون رقم /29/ لعام 1958 كانت تصطدم برفض الجهات المعنية نظراً لعدم قانونية ذلك التعديل، وانتفاء أي دور للغرف الزراعية منذ ذلك التاريخ، وعملياً بقي هذا الحال إلى أن صدر التعميم رقم /5192/ لعام 1999 عن وزارة الزراعة لتجيز عمل الغرف الزراعية، وهو ما يثير الاستغراب، حسب ما هو وارد في المذكرة التي تؤكد على أنه، لا يمكن لتعميم أن يحمي قانوناً طواه الزمن بصدور تشريعات اجتماعية واقتصادية غيّرت وجه المجتمع، وطبيعة أنسجته الاجتماعية والاقتصادية، وأنصفت الفلاح والمزارع، ومن أهمها قوانين الإصلاح الزراعي، وسقوف الملكية الزراعية، وتنظيم العلاقات الزراعية، واستصلاح الأراضي وصولاً إلى قانون التنظيم الفلاحي النافذ حالياً، وفي كل هذه التشريعات لا يوجد أي حضور للغرف الزراعية، ما يعني منطقياً وواقعياً انتهاء وجودها الفعلي.
القانون والغرف
وتبيّن المذكرة أنه عند صدور القرار بقانون رقم /129/ لعام 1958 الناظم للغرف الزراعية، لم يكن هناك أي كيان ينتظم فيه العمال الزراعيون أو الفلاحون، إلا أنه وبعد تغير النمط الاجتماعي والاقتصادي في القطر استتبع ذلك ضرورة تنظيم أوضاع العمال الزراعيين والفلاحين بمختلف فئاتهم، فتم اللجوء إلى إصدار تشريعات متعاقبة تعد بمثابة الإلغاء الضمني للقانون رقم /129/ لعام 1958 المطلوب تعديله حالياً، ومنها التشريع رقم /127/ لعام 1964 الذي ألغى صراحةً القرار بقانون رقم /134/ لعام 1958 بموجب المادة /96/ منه، حيث منح هذا المرسوم التشريعي الجمعيات والروابط والاتحادات والاتحاد العام المحدث جميع الصلاحيات التي كانت ممنوحة لغيرها من الكيانات سابقاً، وفي عام 1969 صدر قانون التنظيم النقابي الفلاحي بالمرسوم التشريعي رقم /253/، وحل محل المرسوم التشريعي رقم /127/ لعام 1964 وتعديلاته، وقد عبّرت الأسباب الموجبة لهذا التشريع صراحة عن اختصاصات ذلك الكيان التنظيمي الجديد، ومنها الإشراف على المنظمات الفلاحية في القطر، والعمل على تحقيق أهدافها قيادة، وتمثيل الفلاحين ومنظماتهم في المجالس واللجان والهيئات والمؤتمرات توسيع قاعدة التنظيم النقابي الفلاحي بحيث يشمل العمال الزراعيين كافة، وتوحيد الهياكل التنظيمية العامة للمنظمات الفلاحية مع مثيلاتها في التنظيم النقابي العمالي القائم على نوع الحصرية في التنظيم.
وتتابع المذكرة: بعد الحركة التصحيحية المباركة صدر القانون رقم /21/ لعام 1974 المعروف بقانون التنظيم النقابي الفلاحي، والنافذ حالياً، والذي وسع قاعدة التنظيم الفلاحي بحيث يشمل العمال الزراعيين والمزارعين والملاك الصغار كافة، حيث منح الاتحاد العام للفلاحين اختصاصات عامة وشاملة، تتعلق بالإشراف على المنظمات الفلاحية في القطر وقيادتها وتمثيلها، والعمل على تحقيق وحدة نضال الطبقة الفلاحية العربية، ووحدة النضال بين الفلاحين والعمال، ورعاية مصالح الفلاحين المنظمين، وغير المنظمين للتنظيم، وركزت المذكرة على مجموعة من التشريعات التي تبيّن الدور الوظيفي الهام للاتحاد العام للفلاحين في مشاركة الحكومة في القرارات الزراعية الهامة، ولم تأتِ على أي ذكر لهذا الكيان الذي طواه الزمن، وهو الغرف الزراعية، كالقانون رقم /3/ لعام 1984، وهو قانون استصلاح الأراضي الزراعية الذي تثبت مواده وفقراته الدور الأساسي للاتحاد العام للفلاحين بشكل كامل.
قوانين صريحة
وتفنّد المذكرة ادعاءات الغرف الزراعية بأنه لا يوجد قانون ينص صراحة على إلغاء القانون رقم /129/ لعام 1958، حيث يرى الاتحاد أن إلغاء القوانين، إما أن يكون صريحاً، أو ضمنياً وفقاً لأحكام المادة الثانية من القانون المدني السوري التي نصت على أنه : (لا يجوز إلغاء نص تشريعي إلا بتشريع لاحق ينص صراحة على هذا الإلغاء، أو يشتمل على نص يتعارض مع نص التشريع القديم، أو ينظم من جديد الموضوع الذي سبق أن قرر قواعد ذلك التشريع )، فهناك التشريع رقم /134/ لعام 1958، والتشريع رقم /127/ لعام 1964، والتشريع رقم /253/ الذي حل محل التشريع رقم /127/ لعام 1964، والتشريع رقم /21/ لعام 1974 النافذ حالياً.
ويرى الاتحاد في مذكرته أنه ليس بالضرورة أن يكون هناك نص يقول صراحة بإلغاء القانون رقم /129/ لعام 1958 للقول: إنه قد ألغي بموجب هذا النص، لأن معظم التشريعات تأتي بنص يقول: (تُلغى جميع الأحكام المخالفة لهذا القانون….)، وهذا هو مفهوم الإلغاء الضمني لقانون سابق، وهو ما حصل بالنسبة للقانون رقم /129/ لعام 1958 الخاص بالغرف الزراعية.
مواجهة ساخنة
شيء ما يحترق، هو الوصف الدقيق للمواجهة الساخنة التي تدور رحاها في حلبة الزراعة السورية ما بين الاتحاد العام للفلاحين، واتحاد غرف الزراعة الذي أشعل بمشروعه لتعديل بعض مواد القانون الناظم لعمله فتيل المنافسة، ودفع بالمنظمة الفلاحية إلى إعلان حالة الطوارئ، والتأهب لمرحلة جديدة يمكن عنونتها بـ (أكون أو لا أكون).
وطبعاً رعاية الاتحاد العام للفلاحين لحياة الفلاح، تستند على قاعدة كونه ممثلاً وراعياً وحاضناً لنصف الشعب السوري، على اعتبار أن عدد المنتسبين لهذه المنظمة 1,5 مليون أسرة سورية، (شخص واحد من كل أسرة )، ومع ضرب هذا الرقم بـ 6 أشخاص، العدد الوسطي للأسرة السورية يكون لدينا حوالي عشرة ملايين فلاح ينتمون إلى 6 آلاف جمعية فلاحية، و62 رابطة فلاحية، و13 اتحاد محافظة، و3 اتحادات نوعية (جمعيات مركزية..النحل، تسويق الثروة الحيوانية، تسويق المنتجات النباتية).
وفي مقابل هذه المنظمة التي يحكمها قانون التنظيم الفلاحي رقم /21/ لعام 1974 هناك اتحاد الغرف الزراعية الذي عاد إلى الساحة الزراعية بعشرات المنتسبين بعد غياب لسنوات طويلة نتيجة تجميد عمله بعد صدور قانون التنظيم الفلاحي عام 1974.
وبعد الاطلاع على مشروع تعديل قانون الغرف الزراعية نجد تشابهاً واضحاً في المهام والأدوار، ومع الاعتراف باتساع الساحة الزراعية السورية لعمل كلا الجهتين اللتين نقف على مسافة واحدة منهما، إلا أنه في النهاية لابد أن تكون هناك جهة واحدة قادرة على احتضان أوجاع الفلاح، ورعاية مصالحه في ظل تطابق الأهداف والغايات، حسب ما هو وارد في القوانين الناظمة لعملهما، وحسب الحضور الفعلي في حياة الفلاح، ولن ننسى التأكيد على أن تعدد الجهات يربك العمل الزراعي، ويضع مصالح الفلاحين في مرمى المجهول، فأين هي الحقيقة في هذه المواجهة؟ وهل تعدد الجهات، وتشابك مهامها، وخلق المزيد من الكراسي يخدم، أو يسهم في تسريع وتفعيل العجلة الزراعية، أم أن القصة من ألفها إلى يائها لا تخرج عن البرستيج، والبحث عن المناصب أينما كانت؟.
بشير فرزان