بقلم : نسرين حسن
على عكس كل ما كتبته سابقا أو ما كتبه غيري ليس فقط اليوم بل على مر التاريخ , فلا تحتاج المأساة السورية إلى تفكير و تحضير و تنميق كلمات لنوصل صوتها , بل هي تدمر جدران الروح قبل أن تخترقها لتهزها بقوة .
لسنا بحاجة إلى تحريض الذاكرة فهي تنساب سيلا من دماء في كل لحظة , أنت فقط بحاجة إلى من يحتضنك في نهاية الحديث حينما تفكر فقط في أن تسرد سطرا من أحد فصولها ..
في ذلك اليوم من خريف 2012 , كنت مفعمة ببعض الأمل فقد شرعت مع مجموعة من السيدات بتأسيس ملتقى يعنى بقضايا النساء السوريات و يفعل دورهن في صناعة السلام .
و كنت ككل من صدق كذبة الأوراق و المواثيق الدولية أعتقد أننا سنوحد صوت النساء في مواجهة الحرب فعلا و فقا للقرار 1325 , و سنصنع صوتا نسائيا في مواجهة الموت و الألم .
كنت قد انتهيت من زيارتي لأهلي في طرطوس صباح ذلك اليوم , ودعت ابني و حاولت ككل مرة أن أشبع صدري بأكبر قدر ممكن من رائحة طفولته التي حرمت منها .
صعدت البولمان السياحي المتجه إلى دمشق , جلست في مقعدي و اتكأت إلى النافذة و بدأت أحلم باليوم الذي سأحقق فيه استقرارا مهنيا و اقتصاديا يسمح لي بأن أجلبه ليعيش معي في دمشق .
فجأة سمعت صوت بكاء مكتوم , بدأ صوته يشتد , اعتقدت أني اتخيل في البداية , فقد كان صوت بكاء رجل .. ونادرا ما تسمع صوتاً كهذا في شرقنا المكبوت فالرجال لا تبكي!
لكن الباكي استمر و لم يتوقف بل زاد بكاؤه اشتدادا ..و فجأة خرج صوته المخنوق لينهي شيئا ما :
" خلص .. خلص .. دبحتيني يا أمي .. خلص مشان الله "
سمحت لنفسي بأن أدور رأسي قليلا إلى الخلف لأقتحم ألمه الذي سرقني من شرودي :
كان شابا في العقد الثاني من العمر ، أسمر وسيم , عيناه الحمراوان تشبهان كثيرا عينا ابني الذي تركته قبل دقائق على عتبة البيت ..
كان يؤشر بيده من خلف بلور الباص لشيء ما في الخارج و يطلب منه العودة.
بموازاة الباص كان هناك دراجة نارية تحمل رجلا و خلفه امرأة في نهاية العقد الرابع تقريبا تتشبث برجلها بيد و تمسك بالهاتف المحمول بيد أخرى.
كانت المرأة أمه.
رافقتنا الدراجة النارية حتى أطراف تلكلخ .. حيث أودعت الأم قلبها للطريق السريع .
بقيت الأم تحدث ابنها الشاب على الهاتف المحمول طوال الوقت ..
في الحقيقة لم تكن تودعه .. لقد كانت تشيعه .. كانت تعرف أنها ربما تكون رحلته الأخيرة التي لن يعود بعدها حتى جثة !
لا أعرف كم مرة غنت له هذه الأم المنكوبة " بكوخنا يا ابني بهالكوخ الفقير .."
و كم مرة حملته أخته الكبرى كما حملت يارا أخاها حتى تعبت زنودها ..
لكني أعرف أنهما لم تكونا تتخيلان أبدا أنه سيكبر ليسير نحو الموت ..
لم أجرؤ على الالتفات إليه أو النظر في وجهه مرة أخرى .. لم أجرؤ على إظهار تعاطفي .. لم يكن بحاجة إلى تعاطفي في الحقيقة كان يحتاج فقط إلى ألا يموت غدا في الحرب!
مهما غلت الأوطان فنحن لا يجوز أن نفترض اننا ولدنا لنموت من أجلها .. بل هي موجودة لتحمينا .. لتحتوينا و تحتوي أحلامنا .. أخطاءنا و إنجازاتنا ..
في ذلك اليوم .. لعنت كل ما قرأته في الكتب .. لعنت أيضا الاتفاقيات الدولية و المواثيق .. حتى الوطن شعرت لوهلة أنه لم يعد يعنيني منه إلا أن يتوقف الموت المجاني لهؤلاء الشباب.
ثقيلة هي القضايا و ثقيلة أثمانها سواء اتفقنا أم اختلفنا معها و لكن باعتقادي لا قضية أثمن من الإنسان و لا قيمة تعلو فوقه .
و يوما ما عندما تضع الحرب أوزارها لا شيء سيعوض أولئك الأمهات المنكوبات عن أبناء اختصروا فيهم رسالة حياتهن ..و جاءت الحرب فأحرقت كل الرسائل .
ها نحن نخربش بملح من دموع و دماء على جدار التاريخ .. و الملح يحفر الصخر كما مأساتنا التي حفرت عميقا في كل شيء ..إلا في ضمير هذا العالم البائس المتواطئ !