نسرين حسن
في فترة ما من عام 2012 اكتظت مدينة طرطوس بالنازحين من أبناء مدينة حمص.
كان بيتي في طرطوس يقع ضمن منطقة احتوت عددا كبيرا جدا من النازحين وقد تداعى أهل المنطقة لفتح بيوتهم ومحالهم التجارية والأقبية في أبنيتهم وحتى بعض منشآتهم لإيواء العائلات الهاربة من الموت.
لم تكن المدينة جاهزة بمؤسساتها الحكومية والأهلية لاستيعاب متطلبات هذا النزوح من مأوى ومدارس واحتياجات صحية، ولم تكن قد تبلورت بعد الآليات اللازمة لذلك.
كان التحرك عفويا من قبل الناس والمجموعات الشبابية لمساعدة القادمين المنكوبين.
وكنت مع مجموعة من الشباب والشابات نحاول جاهدين التدخل فيما يخص الأطفال، متطلباتهم الغذائية، الصحية، تعليمهم وتسجيلهم في المدارس.
وما سأرويه الآن هو إحدى القصص التي واجهتني أثناء ذلك وانتهت بلا حل.
كانت إحدى العوائل التي عملنا معها مؤلفة من أب وأم وأربعة أطفال أكبرهن تبلغ الخامسة والصغرى رضيعة، كان الأب مقعدا بسبب الأحداث فقد تعرض لحادث أصابه بالشلل.
وكعادتي كنت أجري استبيانا معينا أفهم منه احتياجات كل عائلة بدقة.
سألت الأم:
- هل حصل الأطفال على لقاحاتهم جميعها؟
أجابت الأم لا
فقلت كم طفل منهم لم يحصل على لقاحاته وماهي هذه اللقاحات؟
أجابت جميعهم لم يتلقوا اللقاح .. هل هذا ضروري؟
أخذتني الصدمة لوهلة .. لم تتلق أي من الطفلات لقاحا .. ليس هذا فقط ، لم يتم تسجيل أي طفلة من الطفلات في دوائر النفوس , و لم يكن الموضوع مرتبطا بالأحداث الجارية في البلاد فأكبرهن تبلغ الخمس سنوات !
سألت الأم لماذا لم تسجلوا بناتكن في دوائر النفوس؟
فتلقيت الإجابة الصاعقة مرة أخرى: وهل هذا ضروري !!
يبدو أنني يجب أن أعرف أكثر عن بلدي ..
هذا كل ما دار في ذهني في تلك اللحظة ...
قبل عامين بالضبط كنا نتحدث عن تعديل قانون أحوال شخصية وعن قانون أسرة عصري واليوم تأتي أم لتسألني بمنتهى الجدية إن كان ضروريا تسجيل الأطفال في دوائر النفوس!
يبدو أننا لم نكن نمتلك صورة حقيقية ودقيقة لمدى سوء الواقع في بعض الاماكن حينها!
لم تكن هذه الأم من قرية نائية على أطراف البلاد .. لقد كانت من أحد أحياء مدينة تتوسط البلاد فلا يمكن إلا أن تمر عبرها خطط التنمية المتتالية.
ولكن على ما يبدو كان لخطط التنمية في سوريا خارطة أخرى غير التي تعلمناها في المدارس فلا تبدو فيها حمص ولا غيرها مدناً تتوسط سورية.
انتهيت من كتابة الاستبيان واتفقت مع إحدى الشابات المقيمات في منزل قريب من مركز الإيواء أن تصطحب الرضيعة بعد الاتفاق مع والدتها إلى منزلهم لتتلقى علاجها بعيدا عن القبو الرطب وستتم إعادتها فور تعافيها.
بعد أيام .. اتصلت بي الشابة لتقول لي: إن الأم اتصلت بهم وطلبت منهم أن يحتفظوا بطفلتها، فهي بدأت تنهك فعلا من 4 أطفال صغار وأب مشلول وغرفة رطبة مفصولة بقماش فقط عما يحيط بها.
كنا نتناقش جديا على مدى يومين في آليات حماية هؤلاء الأطفال وفيما إذا كان صوابا أن يكفلهن أحد.
إلى أن جاءنا الخبر الصاعق!
هربت الأم !!
هربت الأم وحملت معها أذيال مصيبتها ومعاناتها التي لم تقو على تحملها.
وتركت وراءها زوجا مشلولا وأربعة طفلات ...
كانت الإغاثة في أوجها في ذلك الوقت ولم يكن يشغل أحد إلا كيف يجمع أكبر عدد ممكن من السلل الغذائية من الممولين ومن المنظمات ويلتقط الصور إلى جانب العائلات المنكوبة وهو يقدمها لها ...
كانت المصيبة أكبر بكثير من سلة، وكانت تتكشف يوما بعد يوم.
كنا نحصد ليس فقط ما أنتجته الحرب بل تقصير وفساد سنوات طويلة ما قبل الحرب.
في نهاية عام 2012 أدركت أن مجتمعا بأكمله بدأ بالانهيار ... وأن السنوات القادمة سوف تحمل مفرزات أولها الأطفال المكتومين وليس آخرها تغيير ثقافة المجتمع وتحويله إلى انهزامي واستهلاكي نفعي وهذا ما بدأ يتجلى واضحا في عام 2015.
لم يضع أحد في حسبانه عام 2012 قضايا الحماية ولم يجعلها أحد أولوية وتم تفريغ وزارة الشؤون الاجتماعية من كامل مضمونها وتحويلها إلى وزارة إغاثة!
أطفال وأمهات كثر اليوم دفعوا ثمنا باهظا نتيجة تقصيرنا في تطوير آلياتنا وتركهم يواجهون تجار الحروب والأزمات بلا حماية.
آمل أن نتمكن اليوم من ترميم تقصير السنوات الماضية... بالرغم من أن الوقت تأخر ولكن!
أن تصل متأخرا خير من ألا تصل أبدا ...
و مهما فعلنا .. يبقى سؤال واحد يحيرنا : ماذا سنقول لأبنائنا عن هذا الخراب غدا !