سيريانديز - طرطوس – سعاد سليمان
في أعلى قمة فوق هضبة مستديرة صخرية في سلسلة الجبال الساحلية يرتفع برج صافيتا عن سطح البحر 419 مترا ويشرف على الساحل حتى أرواد وطرابلس والدريكيش وقلعة الحصن .
هناك بدأت رحلتنا الاستكشافية ..عبر طريق حجري أسود يرتفع بقسوة مدهشة عبرناه ببساطة .. بعدسات كاميرا تنا وجوالاتنا نحن وضحكات ودردشة عن عظمة وجمال المكان .
هنا خرج التاريخ بصور يرسمها الخيال وتداعب نسيمات الربيع الوجوه فيعم الفرح في الاستكشاف .
دخلنا إلى البرج من البوابة الكبيرة .. عبر عدة درجات بيضاء عريضة .. إلى بناء مؤلف من طابقين .. يبدو البرج بحالة جيدة تقول في اعماقك وأنت تلج العتمة .. وقد شيدت جدرانه من قطع حجرية مربعة بيضاء رائعة تسحر الزائر ..
هنا .. تظهر آثار مميزة للإصلاحات التي جرت بعد الزلزال الأول في عام 1170 م والزلزال الثاني عام 1202 م الذي إنهار خلاله الطابق العلوي وأجزاء من الزاوية اليسارية للبرج.. حسب ما قيل
للبرج المحصن أربعة أقسام وهي الأساس الفينيقي وهو مغمور تقريبا ولكن أساسه يظهر من الجهة الشرقية والشمالية أما الطابق الأرضي فهو عبارة عن أقبية سقوفها نصف دائرية لها بوابات تؤدي إلى سراديب وفيها خزان ماء محفور في الصخر تم ردمه عندما بدا السكان ببناء مساكنهم... معلومات حصلنا عليها وما رأيناه :
الطابق الأول للبرج الذي يتألف من كنيسة تمارس الطقوس الدينية فيها حاليا والطابق الثاني يدعى بالقاعة الكبرى فوق الكنيسة .. هو صالة مفتوحة , فيها نوافذ ومرامي السهام العميقة مهمتها كما يبدو للزائر الدفاع عن البرج .
تقول المصادر التاريخية أنه تم تصميم الطابق الثاني وبناؤه في أوائل القرن الثالث عشر على ثلاث ركائز من الأعمدة الضخمة البارزة تستند إليها عقود متصالبة شديدة الانحناء .. ويتم الوصول إلى السطح عن طريق درج في الطابق الثاني .. هذا الدرج الذي استخدمناه نحن فريق الرحلة الصحفية من طرطوس لنصل إلى سطح له شرفات ما زال قسم منها محتفظا بفتحاته وهي تطل على الأفق البعيد .. مبنية من صخور ضخمة منحوتة بدقة وعناية ...
من هنا بدأنا.. ومضينا في طرق جبلية رائعة السحر والجمال نمر عبر قرى ما تزال تغفو بين شجيرات الصنوبر والكستناء وغابات تلف الاماكن وهدوء يرفع صوت الطيور المغردة يقلقه صوت محرك سيارتنا العابرة يقطعها أسئلة في باص أنيق نستخدمه لرحيلنا القصير أسئلة تؤكد طريق الوصول إلى حصن سليمان .. ونصل .
ينتظرنا هناك عدد من أهالي المنطقة يحملون بعضا من هموم خدمية ومعاشية للمواطن في تلك البقعة من الريف الطرطوسي البعيد وقد مررنا على تخوم حماه ومنه إلى حلب .. جبال بركانية لم تمسها يد باحث بعد وأشجار عملاقة لم تصل إليها فأس باردة تبغي الدفء .. هنا ما يزال الرب يحمي عرشه ..
حصن سليمان .. هدفنا الثاني وقد حصلنا عليه بضربة جزاء ...
في منخفض من الأرض تحيط به المرتفعات الجبلية..
تقول الحكاية .. أنشأه الآراميون عندما استوطنوا هذه المناطق الجبلية الحصينة هربًا من هجمات الآشوريين، وتم تكريسه في البداية لعبادة الإله بيتو خيخي.. ثم جدده السلوقيون والرومان قبل أن تبنى فيه كنيسة في العهد البيزنطي. أما اسمه الحالي فيعود للسكان المحليين الذين أثارت حجارته الضخمة إحساسهم بالإعجاز واعتقادهم أن جن النبي سليمان هم من بنوا هذا المعبد وقاموا بنقل الأحجار الضخمة التي تزن أكثر من 70 طنًا.
حصن سليمان يبعد عن طرطوس 50 كم شرقًا وعن صافيتا 20 كم باتجاه شمال شرق وعن دريكيش 15 كم، وعن مصياف 14 كم.. ويرتفع عن سطح البحر 790م .. يقع في منخفض من الأرض تحيط به المرتفعات الجبلية من كل الجوانب على السفوح الشمالية الغربية من قمة النبي صالح وعلى مسافة 14كم إلى الشمال من بلدة مشتى الحلو.. التي رافقتنا على يمين طريقنا بأسطح أبنيتها المتلاصقة لتعطي اللون القرميدي ريشة فنان مهيب ..
بيت أخيخي وفق نصوص الكتابات اليونانية المكتشفة في الحرم الكبير للمعبد حيث كان مكرَّسًا لعبادة إله محلي آرامي اسمه منقوش باليونانية على أماكن مختلفة من المعبد "إله بيتو خيخي" وهو يوازي الإله زيوس رب السماء عن اليونان.
كان هذا المعبد موجودًا زمن السلوقيين، وأقيم على أطلال معبد أقدم منه حينما جدد سلوقس نيكاتور بناءه وكرّسه للإله "بعل - زيوس" وسماه "بيت خيخي زيوس" أو "بيت سيسي زوس". وأنه ازدهر في عهد الرومان الذين قاموا بتجديده في القرن الأول الميلادي.
ولكن الإنجاز الحقيقي حدث في القرن الثاني الميلادي خلال حكم الإمبراطور سبتيموس سفيروس، وبقيت العبادة تمارس فيه حتى القرن الرابع الميلادي، في الفترة البيزنطية، أي ما بعد اعتناق المسيحية دينًا رسميًا في عهد الإمبراطور قسطنطين الكبير... الذي منح حق اللجوء إلى المعبد والاحتماء فيه، كما أن الكتابات في الحصن تشير إلى أن الإله الأكبر لبيتوسيسي هو اٍله شاف من الأمراض واٍن مريضًا زار 360 طبيبًا دون جدوى وشفي بأعجوبة فيه!!!
يمتد بناء الحصن على مساحة واسعة ويأخذ شكل مستطيل باتجاه شمال جنوب، وينتصب هيكل المعبد في أعلى نقطة من منتصف الحرم، وهو ذو ثلاثة أقسام رئيسية:
1-الحرم الكبير 2- قاعة العبادة 3-الحرم الصغير.
سور الحصن مبني بحجارة مستطيلة ضخمة يصل طولها إلى عشرة أمتار وارتفاعها إلى 2،6م وفي كل جانب من جوانب السور الأربعة بوابة يتم العبور من خلالها إلى حرم المعبد.
الحرم الكبير مستطيل الشكل بني بحجارة كلسية محلية ضخمة ويتكون من 4 بوابات بنيت أيضا بحجارة ضخمة واحدة في كل ضلع، في أعلى كل منها حجر مستطيل مزخرف بأشكال للنسر والثور وهي تشبه الرسومات التي وجدت في معبد باخوس في بعلبك. ويقع الباب الرئيسي في الشمال ويتألف من ثلاثة مداخل وعرضه 15م وكان للمدخل رواق خارجي وآخر داخلي يستند كل منها على ثمانية أعمدة والرواق الخارجي كان فيه محرابان ومدخلان جانبيان وقوس جميل على المدخل. أما بابا الشرق والغرب فكانا متماثلين، ولكل واحد منهما محرابان، وفي أعلى الباب لوح حجري مزخرف. . في الباب الشرقي يوجد نقش لرأس رجل وكتابة يونانية تؤرخ تكريس السكان لهذا المكان عام 171 م وفي نهاية الجدار الشمالي يوجد نقش أسدين وكتابة أضيفت فيما بعد عام 255 م خلال حكم الإمبراطورين فاليريان وجالينوس.
الجدران – المعبد - الرواق المعمّد للبوابة الشمالية - المذبح الكبير - بقايا غرفة أمام الرواق المعمد للبوابة الشمالية. الرسوم النافرة للنسر.... تجعل الزائر مدهوشا من عظمة البناء وراضيا ممن تخيل أن نبيا وجنوده قد بنوه هو سليمان .
قاعة العبادة كما تقول سيدة مشرفة هناك ورجل آثار أصر أن يعطينا بعضا مما لديه بكل الفخر :
تعود إلى القرن الثالث الميلادي. وهي على شكل مستطيل بني بحجارة كلسية محلية منحوتة بشكل دقيق، وحجمها أصغر بكثير من الأحجام المستخدمة في جدران الحرم الكبير .. وأن النموذج الأيوني هو لتيجان الأعمدة ..
تؤكد الدراسات أن تقنيات البناء المستخدمة في جدران الحرم الصغير وبواباته مشابهة لمثيلاتها في الحرم الكبير وهذا يشير إلى فترة بناء واحدة خلال القرن الثاني الميلادي، وتصميم أصلي واحد وبالتالي التكامل الوظيفي بين الحرمين، وقد بقي على حاله حتى الفترة المسيحية الأولى حيث بنيت الكنيسة ضمنه. أما اختيار الموقع للمركز الديني فقد حدده شيئان مهمان هما: النبع والصخرة المقدسة تحت المعبد وهو ليس موقعا منعزلا كما نعتقد الآن وإنما كان يقع على الطريق الرئيسية الواصلة بين المنطقة الساحلية والمنطقة الداخلية....
من هنا انطلقنا ثانية باتجاه مغارة بيت الوادي .. السر المكنون
الصواعد والنوازل الطبيعية .. مغارة تتميز بطولها غير المحدود , تقع في منطقة دوير رسلان الجبلية وتستقر في واد سحيق مكسو بالأشجار على جدار جرف صخري تكون منذ ملايين السنين نتيجة مرور نهر جليدي ضخم في تلك المنطقة لا تزال آثاره ماثلة للعيان تجسد قوة الطبيعة التي استطاعت بالجليد والمياه أن تحفر هذا الوادي العظيم.
يتخلل المغارة ممران مائي وصخري ويخرج منها نبع بيت الوادي الشهير بمياهه المعدنية.
تشير الدراسات إلى ان هذه المغارة كانت مسكونة في العصر الكالكوليتي/5000/ سنة قبل الميلاد والعصر البرونزي الحديث/1200 -1550/ سنة قبل الميلاد وتكثر فيها التجاويف الصخرية والفراغات المجهولة حيث عثر فيها على بقايا عظام بشرية وعلى لقى أثرية وقطع ونصلات صوانية كما عثر فيها على أكثر من أربعة آلاف قطعة فخارية.
أهالي المنطقة وفي خطوة عفوية قرروا اللقاء بنا ونحن صوت المواطن إلى أصحاب الامر .. كما قالوا وكما كنا نقول !!
نبع بيت الوادي والمغارة والمطعم البسيط يتربع فوق عرشها ليطل على سماء واسعة تلف شجرا عاش مئات السنين وتعكس زرقتها جبالا محفورة بيد الزمن والسنين , منحوتة بمطارق الرياح الغضة حينا والقاسية أحيانا , ومناقير الطيور والخفافيش .. ومياه الانهار ...
سكان المنطقة وأصحابها وبشرع الحق والوجود طلبوا الانصاف من وزارة السياحة بعد قرار وزير السياحة السابق سعد الله آغا القلعة بالاستملاك مطالبين بإعادة النظر وترك أرضهم وما فيها لسكانها المختارين ..
في رحلة الصحفيين لفرع طرطوس الجديد الثانية بعد تشكيله .. كانت المتعة بلقاء الطبيعة الساحرة لبلد مزروع بالقلب مغروس بالروح تؤكد أن سورية الحضارة والتاريخ .. سورية التي يجب أن نحميها برموش العيون كما يحميها الجيش العربي السوري بالروح والدم ..تستحق الافضل وتحتاج كل مولود فيها ليحميها ويعمل لرقيها وتطورها ويحافظ على الارث الموجود فيها تركة السنين وإرث الأولين .. ومستقبل القادمين فالحياة زاخرة بالعطاء .