سيريانديز – مجد عبيسي
كتب مازن ديروان عن اقتران قدوم شهر رمضان بظاهرة ارتفاع الأسعار، موضحاً بعض المفاهيم المغلوطة في البلدان التي تلوثت عقول مواطنيها بالفكر الاشتراكي، إذ يتم استنتاج سريع يتهم التجار بالجشع.
وطرح التفسير العلمي الاقتصادي لهذه الظاهرة، وبعض الحلول المقترحة للتخفيف منها.. يقول:
في كل موسم رمضاني يصبح لغز كيف ولماذا ترتفع أسعار بعض الأغذية والمنتجات الأخرى ذات الارتباط برمضان حديث الساعة.
يوضح ديروان في مقالته، أن البعض -وخاصة أولئك ذوي الدخل المحدود- يشتكون بحق، والبعض الآخر من ذوي الأخلاق الظنونة والمتشائمة يستعجلون إلى النتيجة السهلة، وهي أن الباعة هم طماعون ومحتكرون ويجب معاقبتهم.
وهنا يوضح أن الشخص الطماع يكون دائماً طماعاً وليس فقط في موسم رمضان!! مؤكداً أن الموضوع أكثر تعقيداً من ذلك، وله علاقة أقل بموضوع الطمع.
ورهن الإجابة عن السؤال حول ارتفاع الأسعار خلال شهر رمضان، بفهم آليات ارتفاع وانخفاض الأسعار بشكل عام، حيث سنتمكن عندها من أن نفكر بطرق للتعامل مع المشكلة بشكل فعال وأن نجد حلول أكثر نجاعة واستدامة.
وأعطى ديروان لمحة سريعة لشرح ديناميكيات السوق الحر لتسهيل فهم الظاهرة وفهم الحلول المقترحة، يقول:
البعض في مرحلة من مراحل تاريخنا ظنوا أن أسهل الطرق وأكثرها فاعلية لحل مشكلة ارتفاع الأسعار كانت وبكل بساطة أن تحدد الحكومة أسعار أخفض وتقوم بمراقبة الأسواق ومعاقبة من لا يلتزمون. إذا قمنا بمعاقبة أولئك الذين يرفعون أسعارهم بشكل "مخالف" وأجبرناهم على الالتزام بالأسعار المخفضة ستختفي المشكلة وتحل وكل المستهلكين يصبحون سعداء!!
هكذا نداءات يائسة ما زلنا نسمعها من العديد من الناس، والحقيقة المرة هي أن هذه النتيجة السعيدة لم يتم الحصول عليها أبداً. في كل مرة تم تطبيق ذلك، النجاح الوحيد الذي تم الحصول عليه هو جعل تلك الأصناف ذات الأسعار المحددة والمخفضة بشكل اصطناعي تختفي من الأسواق وتنتقل إلى السوق السوداء التي بالتالي تصبح هي السوق الطبيعية لتلك المنتجات مما يؤدي إلى أن يُجبر المستهلك في النهاية إلى دفع أسعار حتى أعلى من أسعار توازن السوق للمنتجات والتي كان يعتبرها البعض عالية جداً!!
أغلب الزبائن كانوا من الوعي بمكان أنهم لاحظوا أن هذه الطريقة لم تنجح أبداً، وبالتالي توقفوا عن إبلاغ السلطات عن "هكذا مخالفات" مما جعل البعض الآخر يستغربون لماذا لم يتم الإبلاغ عن هؤلاء المخالفين. ماذا حدث؟ أين الخطأ في هذا؟
تفسير علمي اقتصادي:
يقول ديروان: في الاقتصاد الحر والذي يتميز بوجود الكثير من الموردين والخالي من الاحتكارات سواء كانت خاصة أم حكومية، يتم إملاء الأسعار من قبل قوى العرض والطلب.
أنا أشدد هنا على عدم وجود احتكارات، لأنه في حال وجودها فهي تقوم وبشكل اصطناعي بتخفيض العرض، وعندما يكون للمنتج بدائل قليلة يُظلم المستهلكون بالفرض عليهم أن يدفعوا أسعار أعلى.
إذا كان للمنتج بدائل أخرى، يصبح أثر الاحتكار أقل بشكل أكبر لأن لدى المستهلكين وبكل بساطة الإمكانية لشراء منتجات أخرى.
حسب المبادئ البسيطة لاقتصادات السوق الحر، الأسعار ترتفع عندما يزيد الطلب أو يقل العرض، هذا هو مبدأ الندرة الذي هو أساس علم الاقتصاد. على سبيل المثال: إن زراعة الفول السوداني هي أسهل من زراعة الفستق الحلبي، لهذا السبب أسعار الفول السوداني أقل من الفستق الحلبي، مهما انخفضت أسعار الفستق الحلبي ومهما غلت أسعار الفول السوداني.
إن الأسعار في هذا المعنى هي انعكاس لظروف السوق، وليست فاعلة لظروف السوق. فهي في هذا المعنى تقوم بدور "المرآة" التي تعكس واقعه! كلما كان السوق حراً أكثر، كلما كانت (دقة المرآة) أوضح.. وكلما أصيب السوق بمرض الاحتكارات أكثر، كلما أصبحت الصورة التي تعكسها المرآة أكثر تشوهاً.
في السوق الحر عندما ترتفع الأسعار يجب أن لا يتم التعامل معها كوغدٍ يجب معاقبته، وعندما تنخفض لا يجب التعامل معها كقديسٍ يجب مديحه! تعتبر الأسعار ليس أكثر من رسولٍ صادق يقول الحقيقة حول حالة العرض والطلب في السوق في نقطة زمنية ما.
كمثال، عندما يضرب الجفاف منطقة ما يؤدي ذلك إلى انخفاض إنتاج الأعلاف، وبالتالي انخفاض عرضها وارتفاع أسعارها. أعتقد أن غالبية الناس يؤيدونني عندما أقول أنه يجب ألا نتهم المزارعين في هذه الحال بأنهم محتكرون وطماعون ويجب عقابهم، هم في كثير من الأحيان يخسرون بالرغم من ارتفاع الأسعار لكون الكميات الإنتاجية انخفضت.
عندما يجبر مربو الأبقار والأغنام على دفع أسعار أعلى للعلف، من الطبيعي جداً أن يقوموا بمحاولة الحصول على أسعار أعلى للحومهم. وهذا يصبح أكثر عقلانية ومنطقية عندما يجبرون على تربية عدد أقل من الحيوانات نتيجة هذا النقص في الأعلاف.
أجوبة في العمق:
تساءل هنا ديروان عن مسألة مهمة جداً: هل يتوجب على المستهلكين أن يدفعوا الأسعار الأعلى للحوم؟ هل يعتبر دفع الأسعار الأعلى من قبل المستهلكين هو الحل الوحيد والحتمي؟ الجواب هو قطعاً لا!.
هنا يأتي دور التجارة الحرة. لهذا السبب التجارة الدولية تعتبر ضرورية وفعالة.
الجفاف، في مثالنا، لا يضرب العالم كله وإنما مناطق محددة، وذلك بحسب الظروف المناخية والتي هي خارج سيطرة الإنسان. عندما يسمح باستيراد الأعلاف واللحوم بشكل حر إلى المنطقة التي ضربها الجفاف، تبقى كميات اللحوم والأعلاف المتوفرة في الأسواق مستقرة لحد ما. وبالتالي هذا يساعد الأسعار على أن تبقى أكثر استقراراً.
ولنضع ذلك بشكل أكثر علمية. عندما يقوم الجفاف بتحريك تابع العرض نحو اليسار، يقوم الاستيراد بإعادته إلى مكان أقرب إلى مكانه الأصلي. في هذه الحال بدلاً من أن ندع مزارعي الأعلاف ومربي الأغنام والكثير من المستهلكين يعانون، بعملية استيراد الأعلاف واللحوم نحن نقوم بحماية مزارعي الأغنام، والأهم منهم المستهلكين من تبعات هذا الجفاف. بعبارة أخرى، عندما نسمح بالاستيراد لملء الثغرة التي سببها، وحسب مثالنا، الجفاف، نحن بالحقيقة نضيف ما يسميه الاقتصاديون مرونة على العرض. عندما يكون العرض أكثر مرونة تصبح إمكانية تعديل الكميات المعروضة أسهل وذات انعكاس طفيف على كلفة الوحدة.
وعندما يكون العرض فيه الكثير من عدم المرونة، تزيد بعد ذلك كلفة الوحدة بشكل كبير، وذلك لعدم قدرة الموردين لا على زيادة عدد العمال ولا كميات المواد الأولية ولا الآلات المطلوبة لزيادة الكميات التي ينتجونها.
نظرية مرونة الطلب.. وأسعار رمضان:
من جهة أخرى، عندما يكون "الطلب" مرن لحد ما، يصبح بإمكان المستهلكين وبسهولة أن يخفضوا استهلاكهم عندما ترتفع أسعار سلعة ما بشكل كبير. هذا يساعد الأسعار على أن تبقى مضبوطة ويمنعها من التذبذب بشكل كبير.
تأتي مرونة الطلب غالباً إما من وجود بدائل للمنتج، أو من قدرة المستهلكين على تأجيل شراء السلعة لأنها ليست على درجة عالية من الضرورة.
نعود هنا لموضوع أسعار رمضان. في رمضان ومواسم الأعياد الأخرى لدينا الحالة التالية: الطلب على المواد الغذائية يصبح عالياً أكثر من المعتاد، وفيه الكثير من عدم المرونة لأن أغلب الناس لديهم حفلات إفطار وسحور يقدمون فيها ويهدرون كميات كبيرة من الغذاء. هذا جزء من طقوس المجتمع الذي يُشعر الجميع أن عليهم فعل ذلك. هذا ما يجعل الطلب أقل مرونة.
أما من جهة العرض، فنلاحظ أن أسعار بعض المنتجات ترتفع، وبعضها الآخر لا يرتفع، وحتى أنه في بعض الحالات ينخفض!! قد يلاحَظ أن اللحوم والفواكه والخضار الطازجة هي على رأس قائمة المنتجات التي تزيد أسعارها في مستهل رمضان، بينما أسعار المواد الغذائية المجمدة والمعلبة والمشروبات المعلبة وأغلب المواد الغذائية الأخرى غير سريعة التلف مثل البقول والحبوب الجافة نادراً ما ترتفع وحتى أنه في بعض الأحيان قد تنخفض!!
يشير ديروان إلى نظرة المجتمع لرجال الأعمال والتجار، ويتساءل:
هل من المعقول أن رجال الأعمال الذين يتاجرون باللحوم والخضار الطازجة هم طماعون بطبيعتهم؟! هل من المعقول أن أولئك الذين يتعاملون بالمنتجات الغذائية الأخرى هم مولودون لطفاء وطاهرين؟!
من الواضح أن الجواب هو لا. سبب هذه الظاهرة هو ما شرحته آنفاً، مرونة العرض. عندما يكون هناك ارتفاع حاد بالطلب على الخس والبقدونس والكزبرة الطازجة مثلاً ولم يكن بمقدور المزارعين والتجار أن يوردوا جميع الكميات المطلوبة منها في السوق، ترتفع الأسعار لتجبر الناس على تخفيض استهلاكهم بما يكفي لجعل الكميات المورَدة توازي الكميات المطلوبة.
ثغرات الإجراء الحكومي:
ويكشف ديروان عن الثغرة الكبيرة التي تحدثها إجراءات الحكومة عندما تحدد سقف الأسعار، في وقت لم تسهم يوماً بخفض السعر وإنما أسهمت بمشكلات أخرى.. يقول:
عندما تُجبَر الأسعار من قبل الحكومة على أن تبقى منخفضة، يسمي الاقتصاديون ذلك "سعر سقف"، يحصل بعض الأشخاص القلائل الأوائل على الكميات المعروضة وتبقى بقيتنا من دون شيء!
هذه الحالة تؤدي إلى أن يختفي المنتج بشكل كامل من السوق. بالنتيجة يحدث أن أولئك الذين "يحتاجون" المنتج لم يتمكنوا من الحصول عليه ويعانون من عدم وجوده. أما الآخرون المحظوظون الذين لديهم علاقات خاصة مع الموردين الحكوميين يستمتعون بالمنتج ذو السعر المنخفض قسراً إلى نقطة التبذير لانهم اشتروه بسعر منخفض، أو حتى يقوموا ببيع هذا المنتج بالسوق السوداء بأسعار أعلى لأولئك الذين يحتاجونه، ولم يتمكنوا من الحصول عليه.
وبالمختصر، إن السعر الأعلى الذي يعكسه السوق الحر يعطي "إشارة" للموردين لأن يقوموا بإنتاج وتوريد كميات أكبر حتى لو ارتفعت كلفة إنتاجهم؛ وهو يقول أيضاً للمستهلكين أن يقللوا من استهلاكهم لأن الكميات المعروضة من المنتج هي أقل في الوقت الراهن. بهذه الطريقة تتمكن المجتمعات التي تستخدم نظام السوق الحر من تجنب وضعية البضاعة (المفقودة) أو وجود السوق السوداء.
كل شيء متوفر في السوق، ولكن ما هو سعره حالياً ؟!
الآن وبعد أن شرحنا الأسباب والآلية التي يتم بموجبها ارتفاع الأسعار في مواسم الأعياد ورمضان، يبقى السؤال كيف بإمكاننا أن نتعامل مع هذه الظاهرة؟ كيف نتمكن من تخفيض احتمالات ارتفاع الأسعار خلال هذه المواسم علماً بأننا لن نتمكن من تقليص الطلب وذلك بسبب طبيعة مجتمعنا وأنماطه الاستهلاكية (الطلب غير مرن لحد ما في رمضان)!
بكل بساطة، يجب علينا أن نحاول زيادة مرونة عرضنا. لنقوم بذلك يجب علينا أن نسهل لمزارعينا وصناعيينا وتجارنا القيام بعملهم. هذا يعني، وعلى سبيل المثال:
• رعاية المنافسة الشريفة بتبسيط إجراءات التراخيص الحكومية وتخفيضها، لأنه كلما زادت وفرة المنتجات في الأسواق، كلما قلت إمكانية ارتفاع أسعارها.
هكذا إجراءات تشجع الكثيرين على الدخول مجال الأعمال وبالتالي زيادة العرض.
المنافسة الحرة هي أضمن الطرق لحماية المستهلكين من الممارسات الاحتكارية غير العادية، وإن هكذا إجراءات تطبيقها أقل كلفة على المجتمع وهو أكثر فعالية بملايين المرات من سياسات تحديد الأسعار وضبطها من قبل الجهات الرسمية.
• تسهيل استيراد المواد الأولية مثل البذار والأسمدة ومواد التغليف وكل ضروريات الإنتاج الأخرى.
• تسهيل نقل البضائع وجعل إمكانية تملك وتشغيل آليات النقل والتجهيزات اللوجستية مثل سيارات الشحن وأبنية المخازن والرافعات.
• تخفيض الضرائب والرسوم الجمركية.
• تبسيط وتسريع إجراءات الاستيراد والتصدير لتسريع عملية استيراد البدائل لبعض السلع في حال نقصها، ولتسهيل التصدير لدى وجود فائض.
• تسهيل التبادلات بين المشترين والبائعين وذلك بالسماح لمنشآت بيع جملة ومفرق أكثر تطوراً مثل (السوبر ماركت- المول- شركات التوزيع) وأيضاً بالسماح للمصارف شركات التأمين المتطورة للعمل بشكل حر.
• تجنب مفاقمة مشكلة قلة وفرة منتج ما وذلك بإزعاج واضطهاد وبالتالي "تطفيش" أولئك الذين ينتجونه ويتاجرون به. عندما يخرجون من تلك المهنة بشكل دائم أو مؤقت بسبب المضايقة، تنخفض الكميات المعروضة من هذه السلعة في الأسواق بشكل أكبر وبالتالي ترتفع الأسعار بشكل أكبر مؤدية إلى أن تتفاقم المشكلة.
• مقاومة إغراء التلاعب بالنظام السعري وتثبيت وتحديد أسعار أرضية وأسعار سقفية، والتي أثبتت عبر الزمن أنها غير فعالة وفي معظم الحالات تضر، لذا يجب إعطاء قوى السوق بعض الوقت لتعمل وتحل المشكلة وذلك باستخدام موارد مجتمعنا بالشكل الأمثل.
يجب علينا أن نتذكر دائماً أن النظام السعري قد لا يكون من الكمال بالدرجة التي نرغبها، وقد لا يعمل بالسرعة التي نرغب، ولكنه الطريق الأكثر ضمانة للحل الفعال والمستدام للمشاكل على المدى البعيد.
قد لا يعطينا ذلك المتعة الآنية التي نحصل عاليها عند معاقبة التاجر (الرسول الذي يبلغنا واقع السوق) وذلك بسجنه أو معاقبته بسبب "التلاعب بالأسعار"، ولكنه يضمن أن أكبر كم من الموارد يعمل لإنتاج أكثر الأسعار منطقية لتلك السلعة.
بالنتيجة، ارتفاع الأسعار في رمضان هو نتيجة عدم مرونة الطلب الذي يسببه أسلوب حياتنا الذي يجعلنا نستهلك كميات أكبر من المعتاد من المأكولات الطازجة وهو الأسلوب الحياتي الذي نستمتع به، وليس لدينا الرغبة في تغيره.
ويختم ديروان بتساؤلات: هل هذه الظاهرة ستختفي بشكل كامل؟ الجواب هو لا؟ هل بالإمكان أن يصبح الوضع أفضل؟ الجواب هو بالتأكيد نعم!! يجب علينا أن نكون أكثر صبراً ونترك قوى السوق تأخذ دورها وندع مؤسسات الأعمال تتنافس فيما بينها.
(رجل الأعمال مازن ديروان- رجل أعمال