عبيدة عبد الباقي
بعد أكثر من أربعة عشر عاما من الحرب تقف سوريا على أعتاب مرحلة مفصلية في تاريخها الحديث: مرحلة إعادة الإعمار لكن هذه المرحلة لا تشبه أي مشروع تنموي تقليدي بل هي عملية مركبة تتقاطع فيها السياسة بالاقتصاد، والبيئة بالقانون والمجتمع بالبنية التحتية، فإعادة الإعمار في سوريا لا تبدأ من الصفر بل من تحت ملايين الأطنان من الأنقاض التي تغطي المدن وتحمل في طياتها تحديات هائلة، لكنها أيضاً تفتح الباب أمام فرص غير مسبوقة.
حجم الدمار… أرقام تتحدث
تشير تقديرات الحكومة السورية إلى أن تكلفة إعادة الإعمار في سوريا قد تصل إلى تريليون دولار مع تضرر أكثر من 130 ألف مبنى كلياً أو جزئياً وتدمير ما يزيد عن 50 مليون طن من الأنقاض المنتشرة في المدن والبلدات
محافظات مثل حلب، حمص، وريف دمشق كانت الأكثر تضررا حيث دمر أكثر من 60% من البنية التحتية في بعض المناطق، ما يجعل من إزالة الأنقاض أولوية قصوى قبل أي حديث عن إعادة البناء.
التحديات الكبرى في طريق استثمار الأنقاض
1- ملكية الأنقاض: جدل قانوني يعيق الإعمار
في المشهد السوري ما بعد الحرب، لم تعد الأنقاض مجرد بقايا دمار بل تحولت إلى قضية قانونية معقدة فهذه الكتل الخرسانية المتناثرة تمثل في كثير من الأحيان ممتلكات ذات طابع قانوني تتوزع بين ما هو مملوك للدولة وما يعود لأفراد أو جهات خاصة غير أن غياب تشريع واضح يحدد طبيعة هذه الملكيات وسبل التصرف بها، خلق حالة من التردد والجمود، حيث يعزف العديد من الأهالي عن إزالة أنقاض منازلهم المدمرة، إما خشية فقدان حقوقهم، أو انتظارا لتعويضات أو تدخل منظمات دولية هذا الواقع يضع عراقيل حقيقية أمام أي مساعٍ جادة لإطلاق مشاريع إعادة الإعمار.
2- غياب البنية التحتية: أساس مفقود يعطل البناء
في كثير من المناطق السورية المتضررة، لا تقتصر المشكلة على انهيار المباني، بل تمتد إلى غياب شبه كامل للبنية التحتية الأساسية شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي والاتصالات إما دمرت بالكامل أو تعطلت بفعل الحرب، ما يجعل أي مشروع إعادة إعمار عرضة للفشل أو التوقف فالبناء فوق أرض بلا خدمات هو استثمار غير مستدام، ويهدد بخلق أحياء عمرانية مشلولة وظيفياً، ويزيد من معاناة السكان العائدين.
3- مخلفات الحرب والأنفاق: خطر كامن تحت الأرض
إحدى أكثر العقبات تعقيداً في طريق إعادة الإعمار في سوريا تتمثل في وجود مخلفات الحرب والأنفاق المنتشرة تحت المدن فإلى جانب الأنقاض الظاهرة فوق الأرض، هناك تهديدات خفية تتمثل في الألغام الأرضية، والذخائر غير المنفجرة، والأنفاق التي حفرت خلال سنوات الثورة السورية المباركة، خاصة في مناطق مثل جوبر وحمص القديمة هذه التهديدات لا تعرقل فقط عمليات البناء، بل تشكل خطراً مباشراً على حياة المدنيين والعاملين في مشاريع الإعمار، وتزيد من كلفة وزمن التنفيذ
4- خصوصية المناطق: لا إعمار بنسخة واحدة
من أبرز التحديات التي تواجه إعادة الإعمار في سوريا هو التفاوت الكبير بين المناطق من حيث حجم الدمار وطبيعة المجتمع والبنية الجغرافية والاهتمام الدولي وهذا ما يجعل محاولة تطبيق نموذج إعمار موحد على جميع المدن السورية خطأ تخطيطيا قد يؤدي إلى نتائج غير فعالة.
على سبيل المثال، مدينة حلب تمتاز بغياب الأنفاق تحت الأرض وتحظى باهتمام تركي كبير ما يجعل إعادة إعمارها أكثر قابلية للتنفيذ السريع، وفي المقابل تعاني حمص من شبكة أنفاق معقدة وتفتقر إلى دعم دولي مماثل ما يجعلها أكثر تعقيداً من الناحية الهندسية واللوجستية، أما دمشق فتشهد اهتماماً خليجياً متزايداً ما يفتح الباب أمام مشاريع استثمارية ضخمة لكن مجمل هذه المشاريع يتطلب إدارة دقيقة لتوازن المصالح.
5- الجدوى الاقتصادية: إعادة الإعمار أم بناء جديد؟
في ظل الدمار الهائل الذي طال العديد من المدن السورية، يبرز تساؤل استراتيجي لا يمكن تجاهله: هل من المجدي اقتصاديا إعادة إعمار مناطق دمرت بالكامل؟ أم أن بناء مدن جديدة في مواقع أكثر استقراراً وأماناً سيكون خياراً أكثر فاعلية وكفاءة على المدى الطويل؟ لا شك أن بعض المناطق بعد سنوات من الحرب لم تعد صالحة للسكن بسبب التلوث أو التهديدات الأمنية أو تعقيدات الملكية أو غياب البنية التحتية، وفي المقابل قد تتيح مناطق أخرى فرصاً أفضل للتوسع العمراني وتوفير بيئة أكثر ملاءمة للاستثمار والعيش.
6- الاستثمار في الأنقاض: من عبء عمراني إلى مورد اقتصادي
في سياق إعادة الإعمار لا ينبغي النظر إلى الأنقاض على أنها مجرد بقايا دمار، بل كمورد قابل للاستثمار وإعادة التوظيف، فمخلفات المباني المدمرة من الخرسانة والحديد والطوب يمكن أن تتحول إلى مواد بناء جديدة تساهم في خفض التكاليف وتسرع وتيرة الإعمار وتخلق فرص عمل محلية وتقلل الاعتماد على المقالع الطبيعية.
وقد أثبتت تجارب محلية في سوريا، مثل مشاريع ومبادرات الدفاع المدني السوري في حلب ومعرة النعمان ومشاريع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في حمص وعين ترما أن إعادة تدوير الأنقاض ليست فقط ممكنة بل فعالة ومجدية اقتصاديا.
ويمكن القول إن الركام الإسمنتي يمكن استخدامه بنسبة تصل إلى 50% في إنتاج خرسانة جديدة دون التأثير الكبير على خصائصها الميكانيكية بشرط إجراء المعالجات اللازمة لإزالة الشوائب وتحسين الالتصاق.
7- الآثار البيئية والصحية: خطر صامت يهدد التعافي
الأنقاض الناتجة عن الحرب لا تمثل فقط تحدياً عمرانيا بل تحمل في طياتها تهديدات بيئية وصحية بالغة الخطورة فمخلفات المباني المدمرة تحتوي على مواد كيميائية ضارة، مثل الزئبق والتنغستين، إلى جانب بقايا الطلاء والجبس والعناصر الثقيلة الناتجة عن المتفجرات حيث تلوث هذه المواد التربة والمياه والهواء كما تعرض المواطنين وخاصة الفئات الهشة مثل الأطفال وكبار السن ومرضى الجهاز التنفسي لمخاطر صحية مزمنة.
تشريع شامل لتنظيم الاستثمار بالأنقاض
وفي ظل مجمل التحديات القانونية والعملية التي تعيق الاستفادة من الأنقاض ومخلفات الحرب تبرز الحاجة إلى إطار تشريعي واضح ينظم هذا القطاع الحيوي يهدف إلى تنظيم ملكية الأنقاض وتحديد آليات التصرف بها، وتسهيل دخول القطاع الخاص إلى مشاريع إعادة التدوير بما يضمن حماية الحقوق ويعزز فرص الاستثمار، ويضع ضوابط بيئية وصحية صارمة مع التأكيد على ضرورة إتلاف المواد الكيميائية السامة الموجودة في الأنقاض بطريقة بيئية آمنة وفق المعايير البيئة العالمية، وهذا التشريع المنتظر لا يعد مجرد إجراء تنظيمي بل خطوة استراتيجية نحو تحويل الركام من عبء عمراني إلى مورد اقتصادي ومن أزمة بيئية إلى فرصة تنموية.
وفي المحصلة إن الأنقاض ليست نهاية الحكاية، بل بدايتها فمن تحت الركام يمكن أن تولد فرص اقتصادية، ومشاريع تنموية وأمل جديد، لكن ذلك يتطلب قرارات جريئة، تشريعات واضحة، وشراكات واسعة، فهل تتحول أنقاض الحرب إلى أساس للتعافي؟ هل نعيد بناء ما تهدم، أم نرسم خارطة عمرانية جديدة؟.